هارون بن يحيى... أسير عربي يصف القسطنطينية وروما

17 ابريل 2021
آيا صوفيا في رسم من القرن التاسع عشر (Getty)
+ الخط -

لا نعرف شيئاً عن هارون بن يحيى، صاحب "الرحلة إلى القسطنطينية وروما" في أواسط القرن التاسع الميلادي (قبل العام 867 م ترجيحاً)، سوى أنه أُسر من مدينة عسقلان على الساحل الشامي، ونقل إلى القسطنطينية عبر مسار طويل؛ بدأ من ميناء أنطاليا جنوبي تركيا الحالية. ولا نعلم كم مكث في تلك البلاد وكيف تم تحريره ليكتب هذا النص الفريد الذي وصل إلى الجغرافي أحمد بن عمر الأصفهاني، المعروف بابن رستة، المتوفى في العام 912 م، والذي نشر مقتطفات من الرحلة في كتابه "الأعلاق النفيسة".

احتار الباحثون في تحديد التاريخ الدقيق للرحلة، وبعضهم زمّنها بوفاة ابن رستة، وهذا ضرب من المستحيل، فكيف استقام لهم هذا؟ وكيف حكموا بأن ابن رستة وضع مؤلفه قبل أن يموت بأيام أو حتى شهور؟ وهو ما دعا المستشرق الروسي أغناتي كراتشكوفسكي للجزم بأنها وقعت قبل العام 900 م. والغريب أن الباحثين الذين تناولوا هذه الرحلة بالدراسة لم ينتبهوا إلى أخبار الإمبراطور ميخائيل الثالث (842 –867 م)، وهو الإمبراطور البيزنطي الأول بعد الفتوحات الإسلامية الذي شن هجمات على الساحل الشامي، بثلاثة أساطيل يبلغ عددها الإجمالي 300 سفينة، وحقق انتصارات بحرية على العرب المسلمين، أي قبل نقفور فوكاس بقرن كامل.

في رحلة هارون بن يحيى؛ الكثير من الأوصاف الفريدة عن مدينة القسطنطينية، لا نجدها في كتاب آخر. أما طريقة وصفه، ودقة ملاحظاته، وحضوره مأدبة مع الإمبراطور البيزنطي (لا يذكر اسمه) فتشير إلى مكانته الرفيعة وسعة ثقافته، ورجاحة عقله. ويبدو أن إكرام الإمبراطور له ولمن معه من الأسرى المسلمين، كان بهدف مبادلتهم مع أسرى بيزنطيين ذوي مكانة رفيعة، إذ لم يخبرنا أنه خضع للعبودية أو الإذلال، حتى أنهم سمحوا له بزيارة روما.


من عسقلان إلى القسطنطينية

يقول هارون بن يحيى؛ إنه سُبي وحُمل إلى القسطنطينية على طريق البحر، في المراكب من عسقلان، فساروا ثلاثة أيام حتى بلغوا مدينة يقال لها أنطالية، وهي مدينة على ساحل بحر الروم، ثم حُملوا منها على البريد مسيرة ثلاثة أيام في الجبال والأودية والمزارع، حتى انتهى بهم المسير إلى مدينة نقية (الأرجح أنها قونية)، وقال إنها "هي مدينة عظيمة بها ناس كثير"، ثم ساروا إلى مدينة يقال لها سنقرة (الأرجح أن المقصود أنقرة)، إلى أن وصلوا إليها بعد ثلاثة أيام.

بعد ذلك ساروا باتجاه البحر، وكان الطريق إلى البحر عامرا بقرى الروم على اليمين واليسار كما يقول، حتى وصلوا إلى مدينة القسطنطينية، وهي "مدينة عظيمة اثنا عشر فرسخاً في اثني عشر فرسخا". ويقول إن فرسخهم على ما ذُكر ميل ونصف.


وصف القصر الملكي

وينقل لنا هارون اسم بابين مهمين من أبواب القسطنطينية هما: "باب الذهب"، و"باب بيغاس"، وهو الباب الذي يتنزّه الملك قريباً منه. ويشير إلى أن القصر الملكي قائم بقرب الكنيسة (آيا صوفيا) في وسط المدينة، ويقول: "إلى جانبه موضع يقال له البذرون، وهو يشبه الميدان يجتمع إليه فيه البطارقة فيشرف عليهم الملك من قصره في وسط المدينة، وقد صور في القصر أصناما مفرغة من صفر (نحاس) على مثال الخيل والناس والوحوش والسباع وغير ذلك".

ويتابع: "على غربي الميدان مما يلي باب الذهب بابان؛ يسوقون إلى هذين البابين ثمانية من الخيل، وهناك عجلتان من ذهب يشدُّ كل عجلة على أربعة من الخيل ويركب فوق العجلة رجلان قد ألبسا ثياباً منسوجة بالذهب، ويتركانها تجري بما نيط إليها من العَجَل حتى تخرج من تلك الأبواب، فتدور على تلك الأصنام ثلاث دورات فأيُّها سبق صاحبها ألقي إليه من دار الملك طوق من ذهب ورطل ذهب، وكلُّ من في القسطنطينية يشهدون ذلك الميدان ويبصرون".

ويصف هارون السور الذي يحيط بقصر الملك فيقول إنه "سور واحد يحيط بجميع القصر ودورانه فرسخ. أحد جوانبه مما يلي المغرب متصل بالبحر، وله ثلاثة أبواب من حديد، يقال لأحدها باب البيدرون، والآخر باب المنكنا، والثالث باب البحر".


أبواب القصر

ويفصل رحالتنا في وصف أبواب القصر فيقول: "أما باب البيدرون؛ فتدخل به في دهليز مقدار مائة خطوة، في عرض خمسين خطوة، وعلى الجانبين من الدهليز أسرَّة موضوعة، عليها فرش من ديباج، ومضربات ووسائد، وعليها قوم من السودان متنصّرة، بأيديهم أترسة مُلبسة ذهباً، ورماح عليها ذهب. وأما باب المنكنا فتدخل به إلى دهليز طوله مقدار مائتي خطوة في عرض خمسين خطوة، مفروش بالرخام وأسرّة موضوعة في جانبي الدهليز عليها قوم خَزر في أيديهم القسُّى، وفي الدهليز أربعة حبوس: حبس منها للمسلمين، وحبس لأهل طرسوس، وحبس للعامّة، وحبس لصاحب الشرط. أما باب البحر، فانّك تدخل به في دهليز طوله ثلاثمائة خطوة في عرض خمسين خطوة، وهو مفروش بآجر أحمر، وفي الدهليز أسرّة يمنة ويسرة عليها فرش متخذة، وعليها قوم أتراك بأيديهم القسُّى والأترسة، فتمضي في الدهليز حتى تنتهي إلى فضاء مقدار ثلاثمائة خطوة، ثم تنتهي الى الستر المعلّق على الباب الذي يفضي الى الدار، ويسرة الداخل كنيسة الملك ولها عشرة أبواب، أربعة منها ذهب، وستة فضة. وفي المقصورة التي يقف عليها الملك موضع أربع أذرع في أربع أذرع، مرصّع ذلك الموضع بالُّدّر والياقوت، وكذلك مسنده الذي يستند إليه مرصّع بالدرِّ والياقوت".


عيد الميلاد

ويصف رحالتنا كنيسة الإمبراطور البيزنطي بتفصيل ثم يشير إلى وجود صهريج قريب من الكنيسة يخرج منه الماء إلى تلك التماثيل على رؤوس الأساطين (الأعمدة الحجرية)، ويقول "إذا كان يوم عيدهم ملئ ذلك الصهريج بمقدار عشرة آلاف دورق نبيذ، وألف دورق عسل أبيض يطرح على ذلك الشراب، فيطيّب بالسنبل والقرنفل والدراصيني مقدار حمل، ويغطّى ذلك الصهريج ‘لاّ شيئا منه بشيء. فإذا خرج الملك إلى خارج الكنيسة؛ وقعت عينه على تلك الصور وما ينبع من أفواهها وآذانها من ذلك الشراب، فيجتمع في الجرن حتى يمتلئ فيسقى كلّ من خرج معه من حشمه إلى العيد كل واحد شربة".

ويخبرنا هارون بن يحيى أنه بعد انقضاء العيد وخروج الملك من الكنيسة، يأتي إلى مجلس فيقعد في الصدر على مائدة الذهب، وهو يوم الميلاد، ويؤمر فيؤتى بأسرى المسلمين، فيقعدونهم على تلك الموائد. ويحملون إليه عند قعوده في الصدر أربع موائد من ذهب، تحمل كل مائدة على عجلة (..) وبعد أن يغادر الملك يؤتى بالمسلمين "وعلى تلك الموائد من الحارّ والبارد أمر عظيم، ثم ينادي منادي الملك فيقول: وحياة رأس الملك ما في هذه الأطعمة شيء من لحم خنزير، وينقل إليهم تلك الأطعمة في صحاف الذهب والفضة".


آلة الأرغن

يصف لنا آلة الأرغن التي كانت تعزف في ذلك العيد وصفاً مفصلاً إذ يقول: "ثم يؤتى بشيء يقال له الأرقنا، وهو شيء متخذ من الخشب المربع على صنعة معصرة، وتغشى تلك المعصرة بأدم وثيق (أي جلد مدبوغ) ثم يُجعل فيه ستون أنبوبة من صفر (نحاس) رؤوسها الى أنصافها إلى فوق، قد غشيت تلك الأنابيب بالذهب فوق الأدم، حتى لا يبين منها إلا اليسير على تقارب أقدارها، واحدة أطول من الأخرى. وإلى جانب هذا الشيء المربع ثقب يجعل فيه منفخ ككور الحدادين، ويؤتى بثلاثة صلبان فيجعل اثنان منها في طرفيه وواحد في الوسط، ثم يؤتى برجلين ينفخان في ذلك المنفخ، ويقوم الأستاذ (العازف) فيحسب (يضغط) على تلك الأنابيب، فيتكلم كل أنبوبة بحالها على حسب ما يحسب عليه من الثناء على الملك، والقوم كلهم جلوس على الموائد، ويدخل عليه عشرون رجلا بأيديهم الحلباقات (الصنجات)، يضربون فيها ما داموا يأكلون ويطعمون على هذه الصفة اثني عشر يوماً، فإذا كان آخر هذه الأيام؛ يعطى كل أسير من المسلمين دينارين وثلاثة دراهم، ثم يقوم الملك ويخرج من باب البيدرون".


آيا صوفيا أو الكنيسة العظمى

يصف لنا يحيى بن هارون خروج الملك إلى الكنيسة التي للعامة في وسط المدينة، وهي كنيسة آيا صوفيا، حيث تطرح الرياحين والخضرة، ويزيّن الحائط يمنة ويسرة من ممره بالديباج، ثم يخرج أمام الملك عشرة آلاف شيخ، عليهم ديباج أحمر، مسبلة شعورهم الى أكتافهم ليس عليهم برانس، ثم يجيء خلفهم عشرة آلاف شاب عليهم ديباج أبيض مشاة كلهم، ثم يجيء عشرة آلاف غلام عليهم ديباج أخضر، ثم يجيء عشرة آلاف خادم عليهم ديباج لون السماء في أيديهم الطبرزينات الملبسة ذهباً، ثم يجيء بعدهم خمسة آلاف خصي أواسط عليهم ملحَّم خراساني أبيض (نوع من الأردية) بأيديهم صلبان ذهب، ثم يجيء بعدهم عشرة آلاف غلام أتراك وخزر، عليهم صُدُر مسيّرة، بأيديهم رماح وأترسة ملبسة كلها ذهباً، ثم يجيء مائة بطريق من الكبار عليهم ثياب الديباج الملّون، بأيديهم مجامر من ذهب يبخرون بالعود القماري، ثم يجيء اثنا عشر بطريقاً من رؤساء البطارقة عليهم ثياب منسوجة بالذهب في يد كل واحد قضيب من ذهب، ثم يجيء مائة غلام عليهم ثياب مشهّرة مرصّعة باللؤلؤ، يحملون تابوتا من ذهب فيه كسوة الملك لصلاته، ثم يجيء رجل بين يديه يقال له الرحوم، يسكّت الناس، ويقول: اسكتوا، ثم يجيء رجل شيخ وبيده طشت وإبريق من ذهب مرصّعان بالدرّ والياقوت.

ويخبرنا هارون بن يحيى أن "الملك يقبل بعد ذلك وعليه ثياب الأكسيمون (الأسكيم المقدس)، وهي ثياب من أبريسم منسوج بالجوهر، وعلى رأسه تاج، وعليه خفّان أحدهما أسود والآخر أحمر، وخلفه الوزير وبيد الملك حُقُّ من ذهب فيه تراب، وهو راجل كلما مشى خطوتين يقول الوزير بلسانهم "منرمونت أبيابطرا"، وتفسيره أذكروا الموت، فإذا قال له ذلك؛ وقف الملك وفتح الحُقّ، ونظر الى التراب وقبَّله وبكى، فيسير كذلك حتى ينتهي إلى باب الكنيسة فيقدّم الرجل الطشت والإبريق فيغسل الملك يده، ويقول لوزيره إني بريء من دماء الناس كلهم؛ لأن الله لا يسألني عن دمائهم وقد جعلتها في رقبتك، ويخلع ثيابه التي عليه على وزيره، ويأخذ دواة بلاطس، وهي دواة الرجل الذي تبرأ من دم المسيح عليه السلام، ويجعلها في رقبة الوزير ويقول له: دِن بالحق كما دان بلاطس بالحق، ويدور به على أسواق قسطنطينية، فينادون به: دِن بالحق كما قلّدك الملك أمور الناس".


مياه القسطنطينية

أما مياه القسطنطينية فيخبرنا أن لها قناة ماء تصل إليها من بلد يقال له بلغر (بلغاريا) ويبلغ طول النهر الذي يغذي هذه القناة كما يقول، من مسيرة عشرين يوما، فينقسم إذا دخل المدينة ثلاثة أثلاث، فثلث يذهب الى دار الملك، وثلث يذهب الى حبوس المسلمين، والثلث الثالث يذهب الى حمامات البطارقة وسائر أهل المدينة، فإنهم يشربون الماء الذي بين العذب والمالح.


أسرى المسلمين

يتحدث يحيى بن هارون عن دخول الأسرى المسلمين إلى الكنيسة، فيقول "يأمر الملك بإدخال أسرى المسلمين الكنيسة، فينظرون إلى تلك الزينة والملك، فيصيحون أطال الله بقاء الملك سنين كثيرة، ثلاث مرات، ثم يؤمر فيخلع عليهم، ويساق خلفه ثلاث نجائب شهب عليها سروج ذهب مرصّعة بالدرّ والياقوت، وجِلالُ ديباج مرصّعة أيضاً بمثل ذلك لا يركبها، فيدخلونها الى الكنيسة ولها لجام معلّق؛ يقولون إنه متى أخذت الدابّة اللّجام في فمها ظفرنا ببلاد الإسلام، فتجيء الدابَّة فتشم اللجام فتتراجع إلى خلفها، ولم تتقدّم إلى اللجام".

ويشير يحيى بن هارون إلى وجود عمود طوله مقدار مائة ذراع في غربي الكنيسة، على عشر خطى منها، على رأسه مائدة من رخام مربّعة، أربع أذرع في أربع أذرع، وفوقها قبر معمول من رخام فيه أسطليانس (جستنيانوس) الذي بنى هذه الكنيسة، وفوق القبر تمثال فرس من صفر (نحاس)، وفوق الفرس صورة أسطليانس (جستنيانوس) وعلى رأسه تاج من ذهب مرصّع بالدرّ والياقوت. وذكر أنه تاج هذا الملك، ويده اليمنى قائمة كأنه يدعو الناس الى قسطنطينية.

ويخبرنا عن وجود ثلاثة تماثيل من نحاس على هيئة الفرس منصوبة على باب الملك، وأربع حيات معمولة من نحاس أذنابها في أفواهها، وهي كما يرى طلسماً للحيات ألا تضر. ويحدثنا أيضا عن تمثالين لرجلين بعد باب الذهب من المدينة، ويقول إنهما طلسمان يؤتى بالأسارى فيوقفون بين هذين التمثالين ينتظرون الفرج، ويذهب رسول يعلم الملك ذلك، فإن رجع الرسول وهم وقوف؛ ذهب بهم إلى الحبس، وإن وافاهم الرسول وقد تجاوزوا الصنمين؛ قتلوا ولم يبق منهم على أحد.

المساهمون