نيرودا وماركيز.. استذكار لقاء من عام 1971

17 يوليو 2023
ماركيز ونيرودا، الروائي والشاعر عام 1973
+ الخط -

بمناسبة ذكرى ميلاد الشاعر التشيلي بابلو نيرودا (1904 - 1973)، والذي يوافق الثاني عشر من تموز/ يوليو الجاري، استعادت العديد من الصحف والمجلّات التشيلية سيرة صاحب "نوبل" (1971)، ونشرت عنه العديد من المقالات والملفّات الأدبية، التي تناولت مسيرتَه الإبداعية. ولعلّ المقالة التي نشرتها جريدة "تيرسيرا" التشيلية، تحت عنوان "المقابلة التي ازدرى فيها غابرييل غارسيا ماركيز نيرودا"، كانت الأكثر قراءة، كونها روَت تفاصيل المقابلة التي جرت بينهما على شاشة التلفزيون الرسمي التشيلي، عقب حصول نيرودا على "جائزة نوبل" بمدّة 48 ساعة.
 
بدأت المقالة بالحديث عن حفل العشاء الذي قدّمه الشاعر التشيلي بابلو نيرودا، لأصدقائه في باريس، عقب فوزه بـ"جائزة نوبل للآداب"، عام 1971، ومن بين العديد من الشخصيات التي حضرت كالفيلسوف الفرنسي ريجيس ديبريه، والشاعر والرسام التشيلي روبرتو ماتا، كان هناك ضيفٌ لفت انتباه الجميع: إنه صاحب "مئة عام من العزلة". لقد كان نجم تلك الأمسية بلا مُنازع، على حدّ تعبير الجريدة. 

كان ماركيز آنذاك يتمتّع بخبرة كبيرة في ميدان العمل الصحافي، لا سيّما وأنّه عمل في جريدَتَي "الأونفيرسال" و"الهيرالدو"، وكان حينها يحضّر لكتاب "خريف البطريرك"، وهذا ما دفع التلفزيون التشيلي إلى اختياره ليكون محاوِر نيرودا في المقابلة التي قُرِّر إجراؤها بعد 48 ساعة من إعلان "الأكاديمية السويدية" عن خبر حصول نيرودا عليها.

ماركيز: مقابلة مزيّفة بشكل كامل ومصنوعة من أجل التلفاز

حضر الكاتبان إلى مكان المقابلة، وهناك جلسا، وجهاً لوجه؛ نيرودا بجسده الكبير على كرسي عالٍ ومريح، وماركيز غارقاً بجسده الصغير في كرسيٍّ صغير بذراعين، واضعاً ساقاً على ساق بطريقة مستفزّة. أدار الحوار بين الكاتبَين أغوستو أوليفيراس، وروَّجت القناة آنذاك أنه "لقاء عالميٌّ وحصريّ". غير أن ماركيز، على ما يبدو، لم يأبه بتلك "الحصرية العالمية"، وبدا عليه الانزعاج والغضب بوضوح. 

بعد دقائق من بدء المقابلة، أرسل الروائي الكولومبي بعض الكلمات التي بدت وكأنها فأس يقطع الهواء المباشر والكثيف: "لا أعرف إلى أين ستقودنا هذه المحادثة، وهي مزيّفة بشكل كامل، ومصنوعة من أجل التلفاز".

لكنّ صاحب "عشرون قصيدة حبّ وأغنية يائسة"، حاول أن يلطّف الجوّ، وينقذ الموقف: "ليست مزيّفة كثيراً". وراح بعدها يتحدّث عن معنى شعره بنبرته المُعتادة: "لقد كُره الشعر الملحميّ، الشعر الذي كان يروي الأشياء، ولم يعُد أحد يحاول أن يكتب مثل هوميروس، قصة شعبٍ، أو مثل دانتي، لم يعُد أحد يريد أن يفعل ذلك بعد الآن. كذلك الأمر مع الشعر التربوي، الشعر الذي يعلِّم شيئاً ما، صار مكروهاً هو الآخر. قرّرت أن أفعل هذا كلّه في شعري".

غير أن ماركيز لم يسكت، وأجابه على الفور: "يُمكننا أن نصل إلى حالة تعايش سِلمي، حيث يكون الشعراء حكّائين أكثر، والروائيّون شعراء أكثر. لن نتخاصم حول ذلك، بل سنكون أصدقاء وسعداء كما أنا سعيد الآن لأنهّم أعطوك الجائزة. وأتمنّى أن تفرح حين يعطوني إيّاها".

وأمام ابتسامة نيرودا الباردة، تابع الروائي الكولومبي: "لدي انطباع عن كيفية سَيْر الأمور، وأعرفُ جيّداً كلّ ما تقوله عني، كما أعرف حجم تأثيرك الكبير والمُريب على الأكاديمية السويدية". وبالفعل، كان محقّاً إلى حدٍّ ما، فقد فاز ماركيز بالجائزة في عام 1982.

"أنت تستحقّ كلّ شيء"، ردّ عليه نيرودا، ثم اعترف أنه يحسد الروائيّين، قائلاً: "أشعر أنني غير قادر على سرد كلّ شيء بالنثر، والدليل هو أنّني أتساءل دائماً أين أجد روائياً كي أخبره هذه القصة، وبما أنك تمكّنت من تدبّر أمرك للعيش في كولومبيا أو في برشلونة، فلا يُمكنُني أن أمسك بكَ كي أخبرك بشيء عرفته للتوّ".

"ولكنّنا في كلّ مرةٍ نأكل فيها معاً أو نلتقي سويةً، تحكي لي قصصاً رائعة. يكفي أن يوضع أمامك الميكروفون، كي ترويها، ولاحقاً تدوّن، وتصبح قصصاً عظيمة"، أجابه صاحب "مئة عام من العزلة".

وبطبيعة الحال، استغرق نيرودا الوقت كلّه وهو يتحدّث، في حين راح ماركيز ينظر إليه مستمعاً ومنتظِراً مرور الدقائق. حتى بدت عليه علامات اللّامبالاة، ولذلك، بعد 14 دقيقة من الاستماع، قرّر ماركيز أن يُنهي المقابلة ويحسم الأمر، فتوجَّه إلى المُخرِج، وقال له: "لديَّ شعورٌ بأنّنا استنفدنا موضوعات النقاش كلّها، والوقت، وكلّ شيء. لذا أرجو أن تجد الطريقة المناسبة كي تُخرجنا فيها من هذه المحادثة، لأنّ النقاشات الجيّدة التي نقوم بها بابلو وأنا، تحدُث عادةً عندما نكون وحدنا، دون كاميرات أو ميكروفونات أو صحافيّين".

المساهمون