"نوستالجيا" ميرتشا كارتاريسكو: متاهة رومانية معاصرة

01 سبتمبر 2023
ميرتشا كارتاريسكو في فندق بمدينة لايبتزغ الألمانية، 2015 (Getty)
+ الخط -

يتوالى الاهتمام برواية "نوستالجيا" لميرتشا كارتاريسكو Mircea Cartarescu، حيث صدرت ترجمتها السويدية حديثًا، وكانت ترجمتها الإنكليزية قد نشرت في طبعة جديدة عن "بنغوين" في لندن عام 2021 بعد طبعتها الأولى عن "نيو ديركشن" في الولايات المتّحدة عام 2005. هي واحدة من علامات الرواية الرومانية المعاصرة، ولا سيما بعد سقوط الديكتاتورية فيها. شكّلت "نوستالجيا" فارقًا بقواعدها السردية المختلفة وفصولها الطويلة دون وجود فقرات قصيرة.

وُلد كارتاريسكو في بوخارست عام 1956، ونال من جامعتها شهادة الدكتوراه في الأدب الروماني، وكان لدراسته ومكوثه فيها تأثيرٌ بإنتاجه الأدبي؛ حيث كتب عن معاناة إنسانها وثورته عام 1989 التي انتهت بإعدام الرئيس نيكولاي تشاوشيسكو.

تتكوّن الرواية الصادرة عام 1989 من نصَّين أساسيين (في قرابة 350 صفحة) يشكّلان مقدّمة وخاتمة، وبينهما فصول طويلة، ليتشكّل لدينا مزيج من الحكايات داخل حكاية واحدة، ومتاهة سردية كبيرة، يصعب النجاة منها إلّا بعد طيّ آخر صفحاتها، بين فقرات طويلة بنفَس واحد، وقد تأتي أحيانًا في صفحات يتجاوز عددها الأربعين أحيانًا، وبين راوٍ يغرق في سرد الحكايات.

يكتب رومانيا الإنسان الجديد الذي فشل بدوره أن يكون إنسانًا

تبدأ الرواية بقصّة "لاعب الروليت"، وهي قصّة قصيرة يعود الكاتب فيها نحو تجربة شخصية مرّ بها في شبابه، يُصوّر فيها بمهارة عالمًا سفليًا سرّيًا في بوخارست، حيث تملأ الشخصيات المشبوهة أقبية بوخارست المُظلمة بحثًا عن الإثارة والمقامرة. ونشاهد بوخارست في جانبها المظلم. لينتقل الكاتب من بعدها نحو حكاية "التوأمين"، وهي قصّة ذات أجواء غريبة، عن علاقة صبيّ فقير مُتيَّم بفتاة في المدرسة الثانوية، حيث تستمر هذه الفتاة في تعذيبه وإغوائه من دون أن تعطيه أيّ شيء. ومن خلال هذه القصص أجمع، يظهر تاريخ رومانيا في أثناء "الحكم الشيوعي" وبعد التخلُّص منه.

كل حكاية داخل "نوستالجيا" هي رواية في حدّ ذاتها، والموضوع الرئيسي الذي يربط كلّ هذه القصص هو الذاكرة، وتحليل فكرة الماضي، ونوع من محاولة فهم شعور الحالة الإنسانية التي يمرّ بها أبطال الرواية. الذاكرة، كما يكشف العمل، أداةٌ خطِرة، ومهما خدعتنا وتملّصت من حقيقتها، إلّا أنّها تبقى الشيء الوحيد الذي يربطنا بماضينا الفعلي، ومهما حاولنا الفرار من الماضي، فإنّ الذاكرة تجرُّنا نحوه، وتسحبنا نحو عوالم عشناها ورفضناها ورفضنا الحديث عنها أو تَذكُّرها.

نوستالجيا

تطرح الرواية مسألة الحواجز والأزمات التي تتشكّل بين المجموعات الإثنية، والتباينات الثقافية بينها، وتعرض لنا رومانيا من عدة مناظير، خصوصًا بعد انهيار الشيوعية فيها؛ فنحن نقرأ عن رومانيا الفاسدة أخلاقيًّا، والتي ليست، بالنسبة إلى ميرتشا كارتاريسكو، إلّا ضريحًا للفنّ، كما هو الحال في كولومبيا ماركيز، وكما نقرأ عن جبال الأنديز لدى بارغاس يوسا، وكما هي دبلن المخترعة كُليًّا من قبل جيمس جويس.

ومن هنا نلاحظ أن كاتاريسكو يحاول أن يخترع رومانيا مختلفة عن رومانيا الشيوعية، رومانيا جديدةً كُلّيًّا... رومانيا التي يحلم بها ورومانيا التي يحب؛ رومانيا الإنسان الجديد، الذي فشل بدوره أن يكون إنسانًا.


* كاتب من فلسطين

المساهمون