نهاية مزاعم الأخلاق

نهاية مزاعم الأخلاق

01 فبراير 2024
طفلة فلسطينية أصيبت في غارة على خانيونس، كانون الأوّل/ ديسمبر 2023 (Getty)
+ الخط -

الأنظمة الدولية التي وُجدت بعد الحرب العالمية الثانية على وجّه الخصوص، اتّخذت نبرة أخلاقية، فقد رأى العالَم آنذاك أنّ الانزلاق في وحل الحرب له كلفة بشريّة وحضارية عالية جدّاً. لكن، وحتّى في أوج النبرة الأخلاقية التي ظهرت خصوصاً في الغرب الذي لطالما ارتكب مجازر بحقّ شعوب أصلية، لم تكتف تلك الأنظمة بالدفاع عن مصالحها فحسب، بل أنشأت كياناً على حساب العرب الفلسطينيّين، بعد الحرب العالمية الثانية بثلاث سنوات، وقسّمت شبه القارّة الهندية إلى الهند وباكستان عام 1947، وقُتِل وهجّرَ خلال ذلك ملايين من البشر، وأيضاً جرى احتكار التصويت وحقّ النقض على قضايا البشرية جمعاء من قِبلِ قوى ظالمة.

وبالتالي، خضعت البشرية كلّها لأهواء ومصالح هذه البلدان، التي بلا شكّ هي أيديولوجية وليست أخلاقيّة البتّة. ومنذ ذلك الوقت ارتكبت هذه البلدان مقتلات عديدة بحقّ شعوب وأمم أُخرى، سواء في أميركا اللاتينية، أو في بلدان مثل كمبوديا، من خلال دعم نظام الخمير الأحمر الفاشي، أو حكومة إندونيسيا بقيادة سوهارتو، والتي ارتكبت مجازر ضدّ التيموريّين الشرقيّين في السبعينيات من القرن الماضي. وهكذا تربّعت أميركا على عرش هذه الانتهاكات الجسيمة كداعمة للأنظمة الفاشية في هذه البلدان.

وحين نقفز إلى فترة التسعينيات، حيث انتهى الاتحاد السوفييتي بكلّ قوّته وجبروته، ووضعت الحرب الباردة أوزارها، احتفل الغربُ بهذه اللّحظة التي تُوّجت بسقوط جدار برلين. بعدها بقليل، كتبَ المُنظّر الأميركي فرانسيس فوكوياما أطروحته ذائعة الصيت في كتابه "نهاية التاريخ"، حيث أتى على أنّ اقتصادات السوق، أيّ الرأسمالية والليبرالية، والنظام الغربي الديمقراطي، هما الأكثر احتراماً للحقوق الفرديّة؛ إذ يضمنان الاستقرار السياسي والعالمي في مناخٍ تنافسيّ ضمن قواعد رأسمالية تقوم على جهد الفرد والدولة التي وراءه، معتبراً أنّه لن يكون هناك نظامٌ آخر يستطيع منافسة أو هزيمة هذا النظام الذي هو التتويج الأمثل لأفكار الإنسان المتقدّمة. فكرة نهاية التاريخ صاحبَها احتفاءٌ كبير بالصعود الغربي وبدء كثير من الدول النامية وغيرها بتقليد هذا النموذج.

يضعُ العدوان القيَم الغربيةَ في منطقة كاشفة تماماً

هذه الأطروحة ليست سوى أكذوبة كُبرى؛ لأنّ التاريخ البشري، عند رؤيته من منظور أوسع، هو تاريخُ تصارُع وتدافع قوى وتمدُّد: العراقيون القدامى (الأكاديون والسومريون، إلخ)، فمصر الفراعنة، فاليونانيون، فالرومان، فالمسلمون، فالأوروبيّون، فالأميركان... والآن تتحرّك الصين وروسيا نحو عالم متعدّد الأقطاب.

وهكذا، فإن مصطلح "نهاية التاريخ"، الذي يشير إلى حسم معارك وحروب معيّنة في وقت معيّن وما يبدو كحسم لسجالات فكرية معيَّنة، ما هو إلّا أداة من أدوات القوّة الحاكمة والمُسيطرة لتثبيت الهيمنة وترسيخها ثقافياً وليس فقط سياسياً واقتصادياً. فكم من الشعوب والأمم استسلمت لهذه الفكرة في أوجها في التسعينيات، وبعدها بدت أميركا وكأنّها تتربّع على عرش العالم، بينما كانت الصين وغيرها من القوى الصاعدة ببطء آنذاك بعيدة عن المشهد العالمي كقوّة عالمية.

وقد طوّرت أميركا والغرب من قوّتهما من خلال استعمال الثقافة وما يُسمّى "القوة الناعمة"، التي تشمل السينما واللغة الإنكليزية والروايات البوليسية والعاطفية والإعلانات ووسائل التواصل الاجتماعي المسيَّرة والمحكومة برأس مال أميركي على وجه الخصوص، والاحتفالات المنتقاة والمنقوصة بحقوق النساء وحقوق الإنسان والحيوان، والإشارات الوهميّة بمحاربة الفقر في أفريقيا ونشر التطوير فيها، بينما يموت الكثيرون في هذا البلد أو ذاك من الجوع والعطش والجفاف الذي تسبّبه الدول الرأسمالية الكبرى على شاكلة أميركا والصين وأوروبا وغيرها من خلال انتهاكات بيئية وسياسية جسيمة.

لقد وضعَ الغرب نفسه كأنّه حامي حُماة حقوق الإنسان، وحارس الديمقراطية وأنموذج كلّ القيم الإنسانية النبيلة، وأيضاً خلق مساحات لا بأس بها داخل حدوده توحي بذلك لدرجة معيّنة، لكنّ الحقيقة تبقى أبعد من هذه الصورة المبسّطة والمشوّشة.
ثمَّ أتى العدوان على غزّة، حيث المجازر والتدمير بحقّ الفلسطينيّين المظلومين بلا شك بالجملة. وهنا تقف المؤسّسات الدولية عاجزةً عن التدخّل ووضع حدّ للمعاناة البشرية المهولة، ووجد الغرب، وخصوصاً أميركا وتابعيها في أوروبا، نفسه في مكان يكشفهم تماماً.

لقد سقطت كلّ الأقنعة الأخلاقية، وهُم يقودون حملة تدمير وتشويه وتعذيب ضدّ شعب أعزل، يتقدّمهم مجرمون من أمثال نتنياهو، الذي يتّخذ من الإبادة والكذب والغطرسة منهجيّة ثابتة لكلِّ حديث وكلّ خطاب؛ فها هي أميركا تقود حملة لوقف دعم "الأونروا"؛ تلك المنظّمة الدولية التي تحاول بشقّ الأنفس مساعدة الفلسطينيّين في غزّة للاستمرار في الحياة التي تتفاقم استحالتها يوماً بعد يوم على وقع الضربات الإسرائيلية لكلّ البنية التحتية والخدماتية من مستشفيات إلى مدارس إيواء، وهدم مربّعات سكنيّة على رؤوس ساكنيها.

تنهار كلّ مزاعم الأخلاق الغربية في غزّة، مُنذرة بنهاية الأخلاق وارتباطها بأيّ مشروع سياسي غربي، لأنّ حجم وفداحة ما يحدث من انتهاكات صارخة لأبسط الحقوق الإنسانية للشعب الفلسطيني هي تتويج لسياسات ومنظومات فاشيّة تتفوّق فيها القوّة الغاشمة وصناعة الأسلحة وتجريبها على أجساد الأطفال والنساء والبيوت في غزّة.

ما يحدث من عدوان على غزّة واصطفاف الدول الغربية وراءه من خلال دعم المجازر الإسرائيلية هناك هو عارٌ تامّ على جبين الإنسانية، ولن يشفى من ويلاته ونتائجه أحد. 


* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن

موقف
التحديثات الحية

المساهمون