نسَب الترجمة

11 يوليو 2024
نور الدين ضيف الله/ المغرب
+ الخط -
اظهر الملخص
- يسعى بعض المؤلفين إلى كتابة نصوص فريدة تميزهم، لكن هذا صعب بسبب الاعتماد على لغة مشتركة.
- الانتساب إلى اللغة يؤدي إلى ظهور تقاليد أدبية ومدارس تميز مجموعات معينة، مثل الأدب الجاهلي والرواية الغربية.
- يمكن التساؤل عن وجود مدارس في الترجمة كما في الأدب، حيث يلاحظ اختلاف بين منجز الترجمة في المشرق والمغرب العربي.

يطمح بعض المؤلِّفين في كلّ أجناس الكتابة الإبداعية إلى تحرير نصّ على غير مثال، مُفصِحين عن رغبة أكيدة لديهم في التفرّد عن سابقيهم بله مُعاصِريهم، وآمِلين في أن تكون ذاتُهم وحدَها المَرجِع الوحيد لهم، وأنْ يتّخذَهم الآخَرون مرجِعاً يُحال إليه عند الكتابة. ولا يخفى أنَّ نظير هذا الطموح مشروع، خصوصاً إذا ما أفلح في أن يستقطب قُرّاء يقبلون بحساسية في الكتابة أصليَّة تكون هي أصل ذاتها، أي لا سند لها ولا أصل في تاريخ الإبداع الأدبي.

ويستعصي على مؤرّخ الأدب وعلى الناقد الباحث العثور على مثال لمبدع تُبرِز كتابتُه تحقُّقاً نصيّاً لهذا الحُلم، لأسباب عديدة ووجيهة، لعلَّ أوّلها أنّ الكتابة في ذاتها تتوسّل بلغة تتداولها الجماعة المتكلّمة، وأنها مشتَرك بين أفراد الأخيرة، وتزخر بثقافة مجتمعها من أمثال، ومتلازمات لفظية، وحِكم، ومسكوكات لغوية، وتشبيهات وبنيات تركيبية وغيرها، وأنه يستحيل على أيّ كاتب أن يبتكرها وحده، لأن اللغة منتَج اجتماعي يَضمن التواصل بين أفراد الجماعة اللغوية. ولا يسَع الفرد سوى أن يُوظِّفه، وأن يجتهد في أن يتميَّز داخِله بالتَّحويل فيه، والتنويع عليه فقط، ولا قِبل له بالانسلاخ عنه.

واضح أن الانتساب إلى اللغة وثقافتها ينجم عنه انتساب في مضمار الكتابة أيضاً، وظهور تقاليد أدبية ومدارس وتيارات، لَها حساسية تَطبع ما يَصدُر عن مجموعات معيّنة ضمن اللغة نفسها. ويستطيع النقاد الانتباه إليها، والتمييز بينها، ورصد خصائصها، كما هو الشأن في أدبنا الجاهلي، مثلاً، مع مدرسة الحوليات الشعرية، التي تزعَّمها زهير بن أبي سلمى. ويَصدُق الشيء نفسُه على الرواية الغربية، التي يُعترَف ضمنَها بوجود تياريْن في كتابتها، انبثقا عن ثيربانتس، وتزّعم كل واحد منهما دوستويفسكي الروسي وفلوبير الفرنسي.

اختلاف بين مُنجز الترجمة في المشرق ونظيره في المغرب العربي

ونجد للنسب في الكتابة تجلّيّاً آخر، يُمكن أن نستدلّ عليه بما في الرواية الإسبانية، مثلاً، من صلة بين بنيتو بريث غالدوس (1843-1920)، بسلسلته الروائية التي تُعرَف بـ"حلقات وطنية"، وألمودينا غرانديس (1960-2021) بسُداسيتها المعروفة بـ"حلقات حرب لا تنتهي". فضلاً عن أن وجود مدارس في الكتابة مثل "جماعة أبولو"، أو "الرابطة القلمية"، أو "العصبة الأندلسية"، أو "مدرسة الديوان"، أو غيرها، هو إفصاح عن انتساب إلى خط معيّن في الكتابة ذي رؤية وجودية وجمالية.

ويتهيّأ لي أن لا شيء يحول بيننا والتساؤل عن إمكان الحديث عن تيارات في الترجمة، وعن مدارس واتجاهات فيها، على غرار ما في الأدب، ما دامت قضايا الترجمة من قضايا الأدب، أي عن إمكان أن نعثر على خطّ في التفكير في الترجمة، وعن أسلوب في ممارستها، يكونان تعبيراً عن اختيارات جمالية ووجودية لتَكتُّل لبعض مُترجِمي الأدب والفكر، مِن غيْرِ المترجِمين المُحلَّفين، تكون لديهم اقتناعاتٌ يتبنَّونها، وتؤلِّف فيما بينهم في إطار جمعي يُقدِّمهم بصفتهم أصحاب حساسية ترجمية على حدة.

حقيقة أنه لا أثر بتاتاً لأي شيء من هذا القبيل في الغربِ، عِلْماً بأنه الفضاء الذي يُصدِر آلاف الكُتُب المترجَمة سنوياً، والمحتَضِن لأبرز مدارس وكليات الترجمة ونظرياتها. لكن هل عدم توافُر ذلك لديه يعني ضِمْنا عدم إمكان وجوده لدينا؟
الواقع أن المتأمِّل في واقع الترجمة العربية قد يعثر على اختلاف بيِّن ما بين مُنجزها في المشرق العربي ونظيره في المغرب العربي. هذا ما يَذهب إليه بعض الناشرين العرَب، فعلى الرغم من استعمالنا لغة واحدة، فإننا نحن المترجِمين نجد أنفُسَنا نُطالَب من قبلهم بأن نستعمل قاموساً لغوياً مغايراً للمُتداوَل في المَشرق، حتى لكأننا نتكلَّم في المَغرب العربي لغة عربية أخرى.

أتعني ملاحظات هؤلاء الناشرين العرَب أن لدينا في المغرب العربي مدرسةً في الترجمة ذات نسب مغايِر؟ وما المعايير التي اعتمدوها في ضبط اختلافنا عن أشقائنا من المترجمين المشارقة؟ وهل نُفيد من ذلك وجود قطيعة أخرى بين المغربي والمشرقي في الترجمة على غرار ما ارتآه المفكّر محمد عابد الجابري في مضمار الفكر بين جناحي العالَم العربي؟ إنها قضيّة تستحق التدبُّر.


* أكاديمي ومترجم من المغرب

موقف
التحديثات الحية
المساهمون