استعاد المشاركون في حفل تأبين عز الدين المناصرة، الذي نظّمته "جامعة فيلادلفيا" الأردنية مساء الأحد الماضي، تجربة الشاعر الفلسطيني البارز (1946 – 2021)، الذي رحل في الخامس من الشهر الماضي، التي استندت بالنسبة إليهم إلى فهم وتذوّق خاصّين للتراث الكنعاني والعربي انعكس في قصيدته التي كتبها بلغةٍ لا ترى حدوداً وفواصل بين الفصيح والمحكي، وبأسلوب تجاوز الأشكال والبنى السائدة.
أشار القاص محمود شقير إلى أن "رحيل عز الدين كان خسارة كبيرة للشعر؛ فقد بدا طوال مسيرته الشعرية كما لو أنّه يكتب القصيدة بعفويّة تامّة، ولم يكن الأمر كذلك؛ كانت قصيدته تخضع لهندسة وتمحيص واختيار دقيق للمفردات، بحيث يمكننا أن نعرف كاتبها من دون أن يتوّجَها باسمه؛ وهذا سببٌ من أسباب فرادتها"، مضيفاً: "لم يكن ينحو منحى مباشرًا في شعره؛ إذ كان يصف المشهد بأسلوب يرسّخه في المشاعر وفي الوجدان، ويستحضرُ فلسطينَ من خلال ما يدلّ عليها من رموز وإشارات، ويسرد أسماء القرى والمدن، ويذكّر بروائح الأشجار، ويتغنّى بالنساء الكنعانيات الحاملاتِ أصالةَ الانتماء إلى البلاد، ويستفيد من التراث الشعبي ومن بعض مصطلحات المحكيّة الفلسطينية ومفرداتها، يوظّفها في القصيدة بذكاء، ما يضفي على قصيدته طابعًا خاصًّا وبهاء..".
وعن خصوصية كتابته، يقول شقير إنه "كان شاعرًا متمرّدًا على القوالب الجاهزة؛ مجدّدًا في الشعر الفلسطيني منذ بداياته الأولى، فقد كتَب قصيدةَ الشعرِ الحرّ المعتمدةَ على وحدة التفعيلة، وكتب قصيدة النثر التي وصفها بالخنثى الثنائية الجنس؛ ليس من باب الاستهانة بها، بل بمعنى اجتماعِ الشعر والنثر فيها معًا، وكان في كلّ ما أنجز من دواوين شعريةٍ معنيًّا بالإيقاع الملموس وبالموسيقى الداخليّة في قصائده. ولم يكن شاعرَ سلطة أو سلطان؛ كان مستقلًا في رأيه وله صوته الخاصُّ ورؤاه".
تحفظ قصيدته أسماء القرى والمدن وتذكّر بروائح الأشجار
يعود شقير إلى أولى لقاءاته مع المناصرة في عمّان عام 1972 أثناء زيارة لبضعة أيام، وكانا قبل ذلك يلتقيان على صفحات مجلة "الأفق الجديد" المقدسيّة، حيث عمِل الأخير مراسلا لها من القاهرة؛ محلّ دراسته، وكان صاحب "خبز الآخرين" يتابعه من مكان إقامته في القدس، ثم التقيا ثانية في بيروت سنة 1975، التي وصلها مبعداً من سجون الاحتلال الإسرائيلي، لينضمّ إلى أسرة تحرير "فلسطين الثورة"، حيث كان عز الدين يشرف على الصفحات الثقافية فيها، وبدأ آنذاك يكتب عن علاقته بالثورة الفلسطينية، وعن مشاركته في بعض معاركها المسلّحة في كتابه الموسوم بـ"عشّاق الرمل والمتاريس"، الذي صدر عام 1976.
ويختم "كان في الوقت نفسه يواصل كتابةَ قصائده الرعويّةِ ذات اللغة الحسيّة؛ وفيها استفادة من تقنية السرد الذي يصف، من دون مباشرة، تضحياتِ الفلسطينيين وتوقَهم إلى وطن مبرّأ من القيود، ويصفُ كذلك نساءَ فلسطينَ المتألّماتِ لارتقاء الشهداء، ولسانُ حالِ الواحدةِ منهنّ يقولُ ويقلنَ كما جاء في إحدى قصائده: يذكُرني حتمًا في الليل حبيبي/ قالت إحدى عذراواتِ الساحل/ ثمّ رقصن، رقصن، رقصن/ إلى أن شقّقت الأرضُ غشاءَ الأقدام/ وضجَّ الإعياءُ من الإعياءْ/ ضجَّ الإعياءُ من الإعياءِ/ تَعانقَ دمعُ الكنعانيات، وحنّاءُ الأشجار".
استهلّ الناقد والشاعر محمد عبيد الله ورقته مخاطباً الراحل: "احتفلتَ بالتراث واستعدت امرأ القيس وزرقاء اليمامة وعشرات الشعراء والمواقف التراثية، وعلّمت أجيالاً كيف يكون التراث تجديداً وحداثة بما أبدعت من تقنيات وأساليب: منها الاقتباس والتضمين والتقابل والتعديل والقلب والإيقاع الموازي وغيرها". وتابع "في شعرك خرائط شعرية للأمكنة، تقتضي أطلساً جمالياً شعرياً يفسرها ويترجم معانيها ويدل القراء على مسالكها، وكلها ذات صلة بقلبك الذي استراح أخيراً بعد طول صبر وصمود وكفاح".
متمرّد ومجدّد في الشعر الفلسطيني منذ بداياته الأولى
وخلص عبيد الله إلى القول "لقد تميز بشعر الكنعنة الحديثة، وبحضور الرموز التراثية الكثيفة، مثلما أحيا جفرا الفلسطينية وحيزية الجزائرية وأم علي النصراوية وغير ذلك من رموز الحب والأمومة التي تتصادى مع فلسطين وأمومتها وعشقها، وتوسّع في تفصيح العاميات ليكسر الحاجز بين المتلقي والشعر الحديث، فلم يكن شاعراً نخبوياً ولم يكن شاعرا تحريضياً أو شعبوياً، وإنما أضنى نفسه وأغنى تجربته وهو يفتش عن سبل تجمع بين اشتراطات الجمال ومضمون المقاومة، ذلك أنه أدرك أن الكلام السهل المقفى ليس شعراً باقياً، وإنما الباقي هو الشعر الحقيقي، وأن فلسطين جديرة بالأشعار الخالدة".
بدوره، اقترح الناقد والأكاديمي غسان عبد الخالق في ضوء مشاركته في اجتماع اللجنة العلمية الخاصة بالمؤتمر الدولي الأول عن عز الدين المناصرة، شاعراً وناقداً، الذي يعقد في منتصف تموز/ يوليو المقبل في مسقط رأسه، بلدة بني نعيم بالقرب من الخليل، استحداث وحدة دراسية عن الراحل ضمن مادة تذوق النصّ الأدبي أو مادة فن الكتابة والتعبير في "جامعة فيلالدلفيا" كونه من المؤسسين لهاتين المادتين، وتوجيه طلبة الدراسات العلبا إلى دراسة أعماله الشعرية والنقدية، وأن تنظّم هيئات ثقافية ندوة نقدية حول تجربته وتصدرها في كتاب، مبيناً أن اقتراحاته تأتي بسبب ما سمعه وقرأه من وعود أطلقت بعيد رحيل عدد من المثقفين الكبار، ثم سرعان ما تبخرت.
أما الباحث والأكاديمي يوسف ربابعة، فركّز في ورقته على استخدام مصطلح اللهجة المحكية الذي ينسجم هنا مع الموقف الذي تبناه المناصرة، حين استخدم كثيراً من الألفاظ التي تُستعمل في لغتنا اليومية في شعره، ذلك أن مصطلح العامية يعطي إحياء سلبياً مقابل الفصحى، وأفضلية لم يكن يراها أو يؤمن بها، مستشهداً بما قاله صاحب ديوان "رعويات كنعانية" في لقاء صحافي "إنني لم أنظر إلى اللغة الشعبية كلغة ثقافية فقط، بل هي جزء من روحي وقطعة من كبدي، لهذا لجأت إلى الاشتقاق والنحت من الأفعال العامية، الأكثر حيوية من الأفعال القاموسية، وهي أيضا ليست بعيدة عن الفصاحة كما يتصور البعض، كذلك استخدمت الأساليب الشعبية لأنها تمتلك درامية إيقاعية، ولأنَّ الروح الشعبية مرتبطة بالشخصية والهوية".
ولفت الأكاديمي عمر الكفاوين إلى أن "المكان بكافة أشكاله ومظاهره يغطي جزءاً كبيراً من سيرة المناصرة من خلال شعره، فهو يصرح بطريقة غير مباشرة بأحداث حياته في تلك الأمكنة التي يمرّ فيها أو يسكنها، بل إن هذه الأمكنة في كثير من الأحيان تغدو وسيلة للتذكّر، تذكر الأمكنة الفلسطينية، ومجريات حياته فيها، وربما تخيلاته لو أنه كان موجوداً فيها، أو عاش فيها في زمن انقضى". كما يرى الكفاوين أن المتأمل في شعر المناصرة "يدرك أن سيرته الذاتية تتأطر عبر أفعال وذكريات في أزمان مختلفة، بدأت منذ كان في الخليل، وانتهت وهو في عمان، ولعل الليل من أبرز أدوات الزمن التي شكلت تلك السيرة، وفضاء لذكرياته"، مستعرضاً عدّة نماذج من قصائده، ومنها: "أيها الليلُ الذي كان طويلاً على امرئ القيس/ ها أنت لا تتموّجُ كالبحرِ العتيق/ لا تتقلّبُ كالأراملِ والمنفيين/ على الأسرّةِ الخشنةِ والوساوس/ وحيداً تنهشُ لحمكَ الأفاعي الأخوية".
واعتبرت الأكاديمية هالة العبوشي في ورقتها أن المرأة ظهرت عند المناصرة بمظهرين؛ مظهر رمزي أسطوري يتسامى إلى القدسية، ومظهر حقيقي يتمثّل بدور الأم حيناً والطفلة والعمّة والمحبوبة حيناً آخر، وهو جسّد الوطن في كيان المرأة، فكانت حبّه وحياته ومصدر إلهامه وأمله وكلّ ما فيه.
وفي ختام الفعالية، ألقى كرمل المناصرة، ابن الشاعر الراحل، كلمة العائلة التي قرأ من خلالها مكانة الوالد إنساناً وشاعراً مؤمناً بنشر العلم والثقافة، والتي يستشعر بأنها وصيته الأساسية، آملًا أن يتمكّن هو وإخوته وعدد من المثقفين من تنفيذها.