ندوة "تبيُّن".. الفلسفة السياسية المُعاصرة في أوراق خمسة باحثين

14 مايو 2022
من أجواء ندوة "تبيُّن" في مقرّ "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"
+ الخط -

نظّمت دَوريّة "تبيُّن" للدراسات الفلسَفية والنظَريات النقدية، في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السيَاسات"، اليوم السبت 14 أيّار/ مايو، ندوتَها السنَوية الثانية، تحت عنوان "الفَلسفة السيَاسية المُعاصِرة: القضايا والتحوّلات"، وعلى مدار يومين يَتقاسم فيها عشرة باحثين أوراقَها.

قرأ كلمةَ الندوة رجا بهلول رئيس تحرير الدَّوريّة، ووضّح أنّ مباحث السُّلطة السياسية، والديمقراطية، والعلاقة بين الدولة والمُجتمع، والفرد، وعلاقة كلّ هذا بالاقتصاد والدِّين والأخلاق والحرّيات والحُقوق، إنّما جميعُها ضمن مباحث الفلسفة السياسية التي تناقشُها الندوة وفي أعداد "تبيّن" الخاصّة، وهي المباحث التي تحتلّ المكانة الأُولى بين مواضيع الفلسَفة العمَلية.


الديمقراطية في نظام رأسمالي

افتَتحت ورقةُ عبد الله الجَسمي، رئيس قسم الفلسفة في "جامعة الكويت"، أعمالَ الندوة، وجاءت بعنوان "أزمة الديمقراطية في الفلسفة السياسية المعاصرة". وركّز الباحث على فكرة أنّ الديمقراطية لا تَحملُ أزمةً في ذاتها، ولكنّها تعيشها ضمن أزمة النظام الرأسمالي، وغياب أطروحات فكرية بديلة، وتراجُع الثقافة المدَنية وبروز الشعبَويات، وتراجُع النُّخَب التقليدية في المجتمع، والآثار التي تركَتها وسائطُ التواصل الاجتماعي.

إذا كانت الديمقراطية تحتاج إلى ديمقراطيّين، فالثقافة المدنية هي المصنع لهم 

ووفق ما ذَهب إليه، فإنّ ثمّة تحوّلاً أعقب الطبقة الرأسمالية التقليدية التي كانت لها جذورٌ وقيمٌ وامتدادات تاريخية، وهي التي أسّست الدولة المدنية والوطنية الحديثة، مُشيراً إلى نوع رأسمالي جديد عُرِف بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، حيث أصبحت تُوصَف بالرأسمالية المتوحّشة التي يَهمّها فقط الربح الاقتصادي دون الالتفات إلى العدالة والأخلاق، بل إنّها جعلت السياسيّين رَهينةً لها ولمصالحها، وتآكلت في هذا الخِضمّ الطبقة الوُسطى وانتشرت ثقافة الاستهلاك.

وخَلُص الباحث إلى أنّ الثقافة المدنية أفضل ما قُدّم من نتاج فِكري وبَشري، فإذا كانت الديمقراطية تحتاج إلى ديمقراطيّين، فإن الثقافة المَدنية هي المصنع لهم، على حد تعبيره.


الشَّرعية

بدوره طرق زواوي بغورة، أستاذ الفلسفة المعاصِرة بقسم الفلسفة في "جامعة الكويت"، معنوناً مداخلتَه بـ"مسألة الشَّرعية في الفلسفة السياسية المعاصِرة: تشارلز لارمور نموذجاً". ذلك بالاستناد إلى الفيلسوف الأميركي لارمور يأتي السؤال عن الشرعية على هذا النحو: "لماذا يستحقّ نظام ما أن يتمتّعَ بمظاهر الولاء والطاعة من قِبل أفراده؟".

ففي مختلفِ النصوص التي كتبها لارمور ينطلق من أطروحة أنّ الليبرالية تقولُ بسيادة القانون، وأنّ النظام السياسي بوصفه سلطةً مُنظّمة للصراع الاجتماعي، فمن أين يستمدّ هذا النظام سلطته؟ إنّ الإجابة على هذا السؤال تكمن في كلمة واحدة: الشرعية. ولدى مقاربته طروحاتٍ عديدة من جان جاك روسو إلى لارمور، لخّص جملة هذه الأفكار بأنّ الشَّرعية السياسية لا تُحقّق ذاتَها من القانون وحدَه، وإنَّما من العدالة، ليس بوصفها مثالاً أخلاقياً ولكنْ بوصفها سياسةً، وهذا يعني أنّ الشرعية لا تُطرح إلا ضمن منظور إجرائي. غير أنّه انتبه إلى ضرورة احترام المعايير المؤسِّسة للشرعية، بما فيها ما فوق القانون من عادات وتاريخ، مُشيراً بالقول "نحن في الجزائر لا يُمكن أنْ نتجاهل أو ألّا نُثمّن الثورة، فهي التي أنجبت الدولة"، وعليه دعا إلى أن نأخذ بالاعتبار الخُصوصيّات دون إغفال أنّ الشرعية تقوم على قيمة العدل.


العقل العامّ

وجاءت ورقة رجا بهلول بعنوان "العقل العامّ: الهوية والدين"، وقد ركّز جُلَّ اهتمامه على فلسفة جون رولز، ومِن قَبْله كانط، باحثاً في مفهوم العقل العامّ لديهما، من أجل التوصّل إلى فَهمٍ أفضلَ لإشكاليّات العلاقة بين الدين والسياسة والعقلانية. ومُستعيداً رؤية رولز حيثُ العقل العامّ هو طريقة للتفكير حولَ القيم السيَاسية التي يتشارك فيها مواطنون مُتَساوُون وأحرار، وأنّ على الحوار حول مسائل الشأن العامّ أن يلتزم بقواعدَ ومعايير تُحدّد طُرقَ الاستدلال المَقبولة، وأنواعَ البيِّنات التي تُستخدم في النقاش.

وممّا جاء في الورقة أنّ رولز يعترف بوجود أنواعٍ من العقل غير العقل العامّ مثل "عقل الكنائس" و"عقل الجامعات" وغيرهما من عقول روابط المجتمع المدني، وهؤلاء وغيرهم لديهم مسوّغات خاصّة في فضاءاتهم. فالمواطنون لهم قيم ومسوّغات تعبّر عن هويّات وانتماءات مُحدَّدة، ولا يقلّل منها رولز، بل يقول إنّ من المهمّ التأكيد أنّ المواطنين في حياتهم الشخصيّة يُمكن أن يعتبروا أنّ لهُم غاياتٌ غير ما يُمليه التصوّر السياسي. هذا يُفرز هويّتين: واحدة خاصة وواحدة عامّة ذات طبيعة سياسية.

وجوب الدفاع عن قيم حرية الفرد قبل مشاركة الجميع في الفضاء العمومي


عودة للّيبرالية الشمُولية

في مداخلته قال المفكّر العربي عزمي بشارة، مدير عام "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات": "إنّ البُنية النظرية لدى رولز، صحيح أنّها عَقلانية ودقيقة وصارمة وهذا ما يميّزه عن الهَذر غير العقلاني، لكنّها تقومُ على مجموعة مُسلّمات ليبرالية". ووفق ما طَرحه، فإنّه لا يمكن تخيُّل فيلسوف يصلُ إلى الليبرالية السياسية، إلّا لأنّه في الأصل ليبرالي شُمولي، يَنهل من كانط ومن بعده جون ستيوارت ميل ما بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.

ولفتَ إلى أنّ مثل هذا النقاش إنّما هو داخل المجتمعات الديمقراطية الليبرالية، ولا يوجد له معنىً خارجها، سوى ما يمكن تعلُّمه (من الخارج) من النقاش وشَحذ العقول، والإعجاب بنوع الحِجاج. أمّا المُجتمعات الاستبدادية، فهي وفق بشارة، تعيش في مرحلة ينبغي فيها الدفاعُ عن الليبرالية الشمولية كما كانت لدى  كانط وميل "لنصلَ إلى مرحلة نكونُ فيها قادرين على التعامل مع غير الليبراليين، وكيف يقدّمون أنفسَهم في مجتمع إجرائي سياسي، وكيف يُشاركون في الفضاء العامّ".

كما أشار في كلمته إلى أنّ مجتمعات ما زالت تناقش "هل يجوز اعتبار الشخص شهيداً أو غير شهيد، وهل تجوز معايدتُه؟" تحتاج إلى الانخراط في مرحلة الدفاع عن قِيم حرّية الفرد والحقوق المتساوية، قبل الحديث عن الليبرالية الإجرائية وكيفيّة مشاركة الجميع في الفضاء العمومي.


المواطنية

حملت مشاركة أدونيس العكرة أستاذ الفلسفة الأخلاقية والسياسية، عنوان "المواطِنية تضمَن مكانة الدِّين في الفضاء العمومي داخل الدولة الديمقراطية". ودلّلَ الباحثُ على أنّ مسألة الدِّين والدولة تشغلُ الفلسفة السياسية المعاصِرة، وافتتحت عصراً فلسفياً تمكنُ تسميتُه بـ"العصر ما بعد الميتافيزيقي". فالدولة، وهو يتحدّث هنا عن دولة ديمقراطية، هدفُها الصالح العمُومي وغايتُها السلام المجتمعي من حرّية ومساواةٍ ومُشارَكة، بينما مصدر السلطة هو الشعب الذي يُكلّف الدولة بالحقّ بالسلطة داخل مؤسّسات الدولة.

وبينما الدِّين غايته الصالح الفردي وخَلاص الفَرد في الآخِرة، ومبنيّ على حقائق مطلقة، فإنّه بوصفه مُطلقاً لا يعترِف بغيره. ثمّ دعا الباحثُ إلى عدم إهمال ما طرحته عبارة "فصل الدِّين عن الدولة" من إشكالات،  فالدِّينُ هو في الدولة بمعناها العامّ، ومن حيث هي مجتمعٌ وحكومةٌ فإنّها تضمّ أُناساً متديّنين وغير متديّنين. والحال أنّها ليست فصلَ الدين، بل فصل السلطة الدّينية التي تحكم باسم حقيقة مطلقة، عن السلطة الدولتية التي هي نظام مؤسّسات مصدرُها البشر المواطنون.

وخلُص الباحث إلى أنّ الدولة، وهي الفضاء الدولتي، هي مجموعة آليّاتٍ لتحقيق السلام المُجتمعي، لا تتسلّط وتهيمن على مطلقات الناس، ولا الناس بمطلقاتهم يُهيمِنون عليها.


نسويّة ضدّ الاستعمار

أمّا يُمنى طريف الخولي، أستاذة فلسفة العلوم ومناهج البحث بـ"جامعة القاهرة"، سابقاً، فقدّمت ورقتها الموسومة بـ"الفلسفة النسوية ضدّ الاستعمار والإمبريالية".

وقالت: "إنّ النسوية في طليعة التيّارات الفلسفية المناهِضة للمركزية الغربيّة والاستعمار، وأشدّها تحمُّساً في فضح جرائم الاستعمار، واستئصال شأفته". كون الفلسفة النسوية في أصلها توجُّهاً سياسياً، ومن ذلك تبنّيها حقوق المرأة في التعليم، مستذكِرةً أنّها انطلقت في القرن التاسع عشر، بينما صِيغ مصطلح "النسوية" عام 1895، ثمّ وجد صداه في العالم العربي في مصر والشام وتونس. كما بيّنَت الباحثة أنّ مُصطلح "الفلسفة النسوية" ظهر لأوّل مرّة عام 1970، أي في أعقاب ثورة الشباب في جامعات الغرب، وما سُمّي بـ"الموجة النسوية الثانية"، وفي قلب فوران ما بعد الحداثة وما بعد الاستعمار.

وردّاً على سؤال حول موقف النسوية من العِلم، أشارَت الباحثة إلى أنّ "الفلسفة النسوية" انخرطت، بداية الأمر، في فروع الفلسفة الليّنة الأخلاق والسياسة والجمال، ومع الثمانينيات اقتحمَت فروع الفلسفة الصلبَة، ولدى هذه الفلسفة رؤيةٌ متكاملة في هذا الشأن، مُشيرةً إلى أنّ أخصبَ إنجازات النسوية هو في فلسفة العِلم دون إنكار اهتمامها بأخلاقيات الرعاية مقابل المعايير الذكورية.

وختمَت بأنّ فلسفة العِلم التقليدية تُبَلوِرُ إيجابيات العِلم بمنطقِ العِلم، لكنّ النسوية كانت أوّل فلسفةٍ سياسية تطرح سؤال: لماذا لا يَكونُ العِلمُ أفضل وأكثر عدلاً، وأكثر حيوية واستجابة للواقع؟ ونقدت النسوية تيار العِلم وجرائمَ الوضعية من إقصاء النساء وخُرافة الحتمية البشرية، وجريمة الاستعمار، وتلوّث البيئة، منطلقةً من أنّ أسوأَ ما يوجَّهُ للعِلم أنّه كان أداةً تِقنية لتحقيق الاستعمار وثقافية لإقصاء الثقافات الأخرى.

المساهمون