فنّانان تشكيليّان اثنان اقترن اسماهُما، أكثر من أيّ فنّان آخر، باسم نجيب محفوظ وارتبطت كتبُه بهما: جمال قطب (1930 - 2016) في مرحلة "مكتبة مصر"؛ الناشرِ التاريخي لأعمال صاحب "نوبل للآداب" (1988) منذ منتصف الستّينيات وحتى السنوات الأُولى من الألفية الثالثة، وحلمي التوني (1934) في مرحلة "دار الشروق" التي بدأَت في 2005 وانتهت قانونياً في نيسان/ أبريل الماضي.
بدأت تجربةُ جمال قطب مع محفوظ (1911 - 2006) بعد انضمامه إلى "دار مصر للطباعة والنشر" لصاحبها عبد الحميد جودة السحّار (1913 - 1974)؛ حيث راح يُنجز أغلفة كُتبه الروائية والقصصية - بما فيها تلك التي كانت طبعاتٌ منها قد صدرَت قبل ذلك - مُركّزاً على رسم الأماكن التي تدور فيها الأحداث، والشخصيات؛ خصوصاً الشخصيات النسائية التي تُحرّك عوالم روايات محفوظ وقصصه، وقد ساعده في ذلك ثراء تلك النصوص بوصف تفصيلي للشخصيات.
وفق أسلوب الواقعية التعبيرية، أَنجز قطب رسومات الأغلفة والرسومات الداخلية (تضمَّن كلُّ كتابٍ قرابة عشر رسمات داخلية يُقابل كلٌّ منها مشهداً من العمل)؛ حيث عمد إلى تجسيد أحداث مِن الرواية أو القصّة، مع لمسة شعبية طاغية أضفت على الأغلفة دفقاً من الحركة والألوان، وكان لها دورٌ في انتشار تلك الكتب، وقد امتدّ تأثير هذه الرسومات إلى السينما؛ إذ كثيراً ما استُلهمت في ملصقات الأفلام التي اقتُبست من أعمال صاحب "زقاق المدق" (1947).
شكّلت أغلفة قطب والتوني الذاكرة البصرية لكُتب نجيب محفوظ
بعد انتقال حقوق نشر أعمال نجيب محفوظ إلى "دار الشروق"، كان لا بُدّ من اقتراح رؤية بصرية جديدة تُراعي القراءة المُعاصرة لمؤلَّفاته. هكذا، عهدت الدار إلى حلمي التوني بمهمّة رسم أغلفة "ثرية بالتفاصيل وتحتشد بالمعاني التي أردتُ لها أن تتوازى لا أن تتطابق مع مشاهد الروايات"، كما سيصفها هو نفسُه في أحد حواراته.
خلال تلك التجربة، رسم التوني اثنين وخمسين غلافاً لأعمال محفوظ؛ أي أنّه رسم جميع كُتبه التي أصدرتها "الشروق" باستثناء رواية "أولاد حارتنا"، مُعتمِداً في الأساس على لوحاته التي تُناسب كلّ عمل. جاءت الرسومات مُحتشدةً بالألوان والأشكال والأيقونات النسائية والطقوس الشعبية البهيجة. وهي، وإنْ ابتعدت عن الأسلوب الوصفي، الذي يقول إنه "يكاد يسجل بالرسم أحد مشاهد العمل الأدبي فقط لا غير"، مُفضِّلةً الرموز والإشارات والإيماءات التي تتميّز بالغموض والتكثيف، فقد تماسّت مع عوالم نجيب محفوظ الشعبية، وأضافت أبعاداً جديدة إليها، ضمن ما يسمّيه "الحوار الصامت" بين النصّ والغلاف.
تنتمي تجربتا جمال قطب وحلمي التوني مع أغلفة نجيب محفوظ إلى مدرستَين شديدَتي الاختلاف. غير أنَّ كلّاً منهما انطلق مِن معرفة عميقة بالعوالم السردية لصاحب "بين القصرَين" (1956). كانَ قطب يزور الأماكن والأحياء الشعبية التي تدور فيها أحداث القصص والروايات ليرسم أغلفةً تُشبهها؛ وهو الذي قال إنّ محفوظ اعتبره، في أوّل لقاء جمع بينهما، "ضلعاً" ثالثاً في معادلة النشر (الضلعان الآخران هما الكاتب والمطبعة). أمّا التوني، فقد انطلق في رسوماته من قراءته لمجمل مشروع محفوظ السردي. وفي المحصّلة، قدّم الفنّانان أغلفةً تواءمت مع روح النصوص - كلٌّ في زمنه - وشكّلت على مدار عقود ما يمكن تسميته بالذاكرة البصرية لكُتب نجيب محفوظ.
هذه الذاكرة البصرية ستصطدم بأغلفة جديدة كشفت عنها، مؤخّراً، "دار ديوان" لثلاث من روايات نجيب محفوظ؛ هي: "اللصُّ والكلاب" و"ثرثرة فوق النيل" و"أفراح القبّة"؛ وهي الأغلفة التي أنجزها استوديو تصميم غرافيكي يحمل اسم "40 مستقلّ"، وحملت توقيع المصمّم المصري محمّد مصطفى.
كانت "ديوان" قد حصلت نهايةَ عام 2021، وبعد منافسة مع قرابة عشر دُور نشر مصرية وعربية، على حقوق النشر الورقي والصوتي لأعمال الروائي الراحل، بشكل حصري؛ حيثُ وقّعَت ابنته، أم كلثوم محفوظ، عقداً مع الدار مدّتُه خمسة عشر عاماً، مُقابِل قيمة مالية لم يُفصح عنها الطرفان، ليُنهي ذلك احتكار "الشروق" الذي دام قرابة عقدٍ ونصف. كما حصلت الدار على حقوق النشر الإلكتروني مع "دار هنداوي" - التي حصلت على الحقوق الإلكترونية مقابل ستّة ملايين جنيه، وأصدرت منذ أيار/ مايو الماضي سبعاً من روايات محفوظ عبر منصّتها الإلكترونية؛ هي: "بين القصرين"، و"قصر الشوق"، و"السكّرية"، و"اللصّ والكلاب"، و"الحرافيش"، و"أولاد حارتنا"، و"ثرثرة فوق النيل".
وضمن ما سمّته "مشروع نجيب محفوظ"، أعلنت "ديوان"، في حزيران/ يونيو الماضي، عن تشكيل لجنةٍ لمراجعة جميع أعمال الكاتب المصري، وقالت إنّ ستّاً من رواياته - وهي "اللصّ والكلاب"، و"السكّرية"، و"ثرثرة فوق النيل"، و"بين القصرين"، و"الحرافيش"، و"قصر الشوق" - دخلت مرحلة الطباعة.
اعتبر بعضُهم أنّ الأغلفة الجديدة بعيدةٌ عن روح محفوظ وعوالمه
في أغلفة الكتب الثلاثة المنشورة، يأخذ اسم نجيب محفوظ - كما في طبعات "دار الشروق" - مكاناً مركزياً؛ حيثُ كُتب بحجمٍ كبير، وبخطّ مستوحىً من الخطّ المملوكي الذي "يُعدّ من أكثر الخطوط التي تغذّت عليها مخيّلة الكاتب في مكان ميلاده بالجمالية". لكنَّ الخطّ بدا غير مقروء بسهولة، وذلك جانبٌ من الانتقادات الكثيرة عبر مواقع التواصُل الاجتماعي، والتي طاولت الألوان والرسومات أيضاً.
جاءت الرسومات المرفقة بطريقة الغرافيك الذي يُذكّر بأغلفة أعمالٍ توصَف بالـ"كيتش"، وإنْ كان بعضُها يُحقّق انتشاراً جماهيرياً كبيراً. أشار بعض المعلّقين إلى أنّ الأغلفة "بعيدةٌ عن عوالم نجيب محفوظ وروحه"، وأنّها "تكشف عن استسهال واضح" وعن "نزعة تجارية"، و"تُعبّر بشكل سطحي عن عناوين الروايات، من دون التعمّق في الأفكار والقضايا التي يطرحها مؤلّفها"، بينما دعا بعضُهم دار النشر إلى التراجُع عن إصدار الروايات بهذه الأغلفة.
من بين المنتقدين، التشكيلي محمّد عبلة الذي قال، في تصريحات صحافية، إنّ "التصميم لا يناسب روح نجيب محفوظ ولا يرقى إلى تاريخ كتبه"، والروائية سلوى بكر التي قالت إنّ التصاميم "تفتقد إلى فهم دور الغلاف بالنسبة إلى الكتابة، والمتمثّل في تكثيف الخطابات الموجودة داخل الكتاب".
وبينما عقد البعض مقارناتٍ بين الأغلفة الحالية والأغلفة التي أنجزها جمال قطب وحلمي التوني لصالح الأغلفة القديمة، رأى آخرون أنّ الأمر "الطبيعي والصحّي في الفن هو التجريب والتغيير من النمطي والمعتاد" مثلما كتب القاص يوسف الشريف، وأنّ الأحكام السلبية تؤكّد أنّنا "أسرى ذاكرتنا البصرية"، بينما نحن أمام "تجربة جيل مختلف يستحق أن يرى دعمنا له، لأنّه يقدّم تجربته لجيل مختلف نحارب نحن لنحكم على ذائقته ونلغيها ونحتكرها ونحوّلها"، مثلما كتب محمّد فتحي، أستاذ الإعلام في جامعة حلوان.
أخيراً، وبقدر ما تعكس تصاميم الأغلفة الجديدة سطوة للنزعة التجارية على عالَم النشر اليوم، فإنّ حالة النقاش التي خلقتها على مواقع التواصُل الاجتماعي، والذي اشترك فيه فنّانون وكتّاب وقرّاء، تُشير إلى وجود شيء من الممانعة ورفض للتنازُل عن الحدّ الأدنى من الذائقة الفنّية.