يسود الاعتقاد لدى القارئ الأوروبي أنّ الدول العربيّة تعتمد الشريعة الإسلاميّة قانوناً أساسيّاً، تؤول إليها في القضاء والتشريعات من أجل ضبط تعاملات المجتمع والدولة. وغالباً ما يترسّخ هذا التّصوّر الخاطئ بفعل تعبئة أحزاب اليمين التي جعلت من اسم "الشريعة" مصدر رعبٍ، تقرنه بالعقوبات الجسديّة ثم تدعو إلى مكافحة هجرة المسلمين لأنّهم، حسب هذا الخطاب المُتشدّد، لا يحلمون إلّا بتطبيق الشريعة في مجتمعات الغرب.
ويسود الاعتقاد أيضاً أنّ المنظومات القانونيّة في الوطن العربي مُستمدَّة جملةً وتفصيلاً من الفقه الإسلامي، من دون تنسيب أو تحديد، كأنّ بُلداننا لم تنخرط قطّ في مسار تدوين القوانين (Codification) منذ منتصف القرن التاسع عشر، وكأنها لم تحدِّث البتّة مؤسساتها القضائية والتشريعية.
ولتفنيد هذَين التصوُّرَين الخاطئَين، صدر حديثاً للباحثة الفرنسيّة نتالي برنار-موجيرون كتابٌ بعنوان "قوانين الدول العربيّة المعاصرة" عن "منشورات سيري" و"ل. م. د."، الذي يضم أكثر من 2239 صفحة.
أغفلت دور الاجتهاد الإسلامي عبر العصور في تطوير القوانين
ينقسم هذا الكتاب إلى قسمَين: تطرّقت في الأول منهما إلى التحوّلات القانونيّة التي طرأت على العالم العربيّ إثر إصلاحات النظام القضائي في ظلّ الحكم العثماني، حيث نشطت مسارات تدوين القوانين في مجلّات مُبوَّبة حسب المناهج العصريّة. وتطرّقت في القسم الثاني منه إلى الأنظمة القضائية الرّاهنة في كافة البلدان العربيّة، مع الوقوف على ما في تشريعاتها من موضوعاتٍ وإجراءات حديثة، بعد أن صارت بيد الدول القُطريّة.
وما يميز هذا السِّفْر، الذي يتوجّه إلى جمهور عريض، هو تغطيته كافّة فروع القانون العام والخاصّ، أكان مَدنيّاً أم جنائيّاً، مع التركيز على قضايا العائلة والدستور والعقوبات، أي على تلك المجالات التي يُمكن أن تتضمّن قيماً حسّاسة، كانت خلال القرون المنصرمة من مَشمولات الفقه تخضع لإملاءات النصوص الدينيّة. إلّا أنها في العصر الراهن خرجت تماماً، عدا موضوعات نادرة، من النّظر الفقهي واستُبدلت بالمفاهيم القانونيّة الغربيّة، ولا سيما الفرنسيّة، التي أثّرت، حسب الباحثة، طيلة القرن التاسع في التشريعات العربية، خصوصاً بفضل أعمال قدري باشا، وعبد العزيز فهمي، وعبد الرزاق السنهوري وغيرهم، الذين بيّنوا من خلال ترجماتهم وتحاليلهم أن لا تعارضَ البتّة بين روح الشريعة والقوانين الوضعيّة، لأنها تؤول جميعاً إلى مقاصد متماثلة حتى وإن اختَلفت في طُرق الاستنباط.
إلّا أنّ النظر المعمَّق في النصوص القانونيّة الجاري بها العمل في الأقطار العربية، مع استثناءات محدودة في المملكة العربيّة السعوديّة، يؤكّد أنّ هذه النصوص والأجهزة القضائيّة خاضعة بالكلّية للدولة، وليس للمجالس الشرعيّة، فهي تحت إشراف "وزارة العدل" تُنظمّها بشكل مُعَلْمَنٍ (Sécularisé)، أي عبر هيكلٍ وضعيّ نُزعت منه الأبعاد الدينيّة والقَبَليّة وبات تحت إدارة بشريّة زَمنيّة، تتّسم بالتغيُّر والنسبيّة.
ولتأكيد هذه الأطروحة، استعرضت الكاتبة عشراتٍ من الأمثلة المتعلّقة بالزّواج والطلاق والحضانة وشروط كلٍّ منها، إلى جانب عيّناتٍ من القانون الدستوري والجزائي، مُبيّنة أنّ هذا الأخير تجاوز التقسيم الثلاثي (حدود، وتعزير، وقصاص)، ليخضع للتبويب الحديث بحسب الجرائم والجُنح والمخالفات. كما دلّلت أنّ العقوبات المُقرّرة لكلّ واحد منها قد تغيّرت بشكل عميق، ما يجعل الفقه الإسلاميّ، حتى في الدول التي تؤكّد دساتيرُها استمداد القانون من الشريعة، مجرّد مرجع بعيدٍ، أجريت عليه تحويرات عميقة، حتى صار بمثابة شعارٍ رمزيّ تلجأ إليه هذه الدول من أجل بسط شرعيّتها، وإظهار ارتباطها بالأصل الديني، لكنّها في الواقع تشريعات وضعيّة، شكلاً ومضموناً.
هيمنة للدولة الحديثة على إنتاج قوانين ناظمة للمجتمع
فقد باتت أجهزة الدولة تتولّى مهمّة إنتاج القيم بمختلف مضامينها القانونيّة والأخلاقيّة، لتنظيم المجتمع بحسب مبادئ مُعلْمَنة وزمنيّة. كما استولت على الفضاء القضائي برمّته، بعد أن عوَّضت المحاكم الشرعيّة بأُخرى مَدنيّة، للنظر في كافة المُنازعات على ضوء تشريعات أقرَّتها البرلمانات، فلم يبق للفقه سوى مسائل ثانويّة.
وأكّدت بارنار-موجيرون أنّ المدوّنة القانونيّة الفرنسيّة، بمجلّاتها المختلفة (الدستور، المدني، والجزائي والتجاري)، لعبت دوراً كبيرًا في الصياغة الحديثة للقوانين العربيّة، إذ كانت بمثابة المثال الذي تأثّر به ساسة الدول ورجال القانون فيها، ولا سيما في النصف الأول من القرن العشرين، حين اقتُبست هذه المدوّنات بحجة أنها لا تعارض الشريعة، بل تخدم المصلحة العليا والمقاصد الكبرى للإسلام كتحقيق العدل والمساواة.
من جهة ثانية، بيّنت الباحثة أن ما نعتبره كتلة واحدة من القوانين العربية هي في الحقيقة مُدوَّنات شتّى، فيها من الفروق والألوان بقدر ما في المجتمعات العربيّة من ثقافات ومرجعيات وخصائص أنثروبولوجية وسماتٍ اجتماعيّة. ولذلك، عمدت إلى مقارنات مطوّلة حول كلّ نقطة قانونيّة، اعتماداً على النصوص التي أوردتها بكثافة، وجعلتها تنطق بتنوّع هذه المفاهيم المدنيّة التي تجاوزت التّراث وقطعت معه.
وحين تحلّل مضامين هذه التحوّلات التي طاولت كلّ القواعد، كقاعدة "التراضي" في الزواج مثلاً، فهي تسترجع ما ورد في جميع مُدوّنات قوانين الأسرة في العالم العربي، لتؤكّد ابتعاد فحوى هذا المبدأ عن التصوّر الفقهي التقليدي وتأثّره بالمبادئ المدنيّة المعاصرة التي ظهرت، حسب قولها، بفضل النموذج الفرنسي!
فعلاً، يخضع هذا الكتاب، رغم قيمته، للإملاءات اللّاواعية للمركزية الفرنسيّة، حيث علّلت الباحثة ما شهده القضاء والقانون من تطوّرات، في عالمنا العربيّ، أساساً بتأثير النموذج الفرنسيّ، مُهملةً العوامل الداخليّة ومنطقَ الفقه ذاته، المبنيّ على مراعاة المقاصد والقول بـ"السياسة الشرعيّة"، التي هي عبارة عن إجراءات سياسيّة بشريّة، هدفها استصلاح المجتمع بحسب المصالح العليا للدولة والأفراد.
كما أغفلت دور المثقّفين العرب والمسلمين في تطوير مبدأ الاجتهاد، منذ العصر العباسي وبدايات الحُكم العثماني، حين اضطُّرّت الإمبراطوريّة إلى تحيين ترسانتها القيميّة لمواجهة العالَم المُحيط بها، فضلاً عن إدارة تنوّع مكوّناتها الاثنيّة. فلم يكن الفقه خلال العصر الوسيط خطاباً جامداً، بل بالعكس تشهد الكتابات حول النوازل والفتاوى على حيويّة العقل الفقهي في التعامُل مع أحداث التاريخ، من أجل مدّ الفرد المُسلم، في كلّ الثقافات التي انتمى إليها، بالأجوبة الملائمة.
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ ما تعده الباحثة نموذجاً حديثاً هو في الحقيقة وليد تطوّر سائر المجتمعات مشرقاً ومغرباً، وسعيها في اتجاه مراجعات القيم ونزع الأسطرة والطابع المقدّس منها. وليس هذا المسعى حكراً على المجتمع الفرنسي دون غيره، بل شملت حركة التاريخ هذه مجتمعات آسيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا، ولعل العوامل الداخليّة فيها أعمق من التأثير المضخّم للنموذج الفرنسي.
والخلاصة أنّ هذا الكتاب عملٌ وصفيّ لبُنية الأنظمة القانونية والقضائية، وطرق اشتغالها في البلدان العربية، مع وضعها في سياقاتها السياسية والاجتماعيّة، إلّا أن رغبة الكاتبة في الشمول وتغطية كلّ البلدان وكافّة فروع القانون جعل خطابها سرديّاً وربما عموميّاً، في حين يستحقّ كلّ موضوع على حدة، كالقانون الجنائي، كتاباً مستقلّاً.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس