ناقة فلسطين العظيمة

ناقة فلسطين العظيمة

12 نوفمبر 2023
طفلان يركبان جملاً بينما تحلق الطائرات الورقية في سماء غزّة، 20 حزيران/ يونيو (Getty)
+ الخط -

تنشب حربٌ عنيفةٌ، تشبه القيامة، التي جاءت من السماء، حيث لا توجد سفينة نوح بين أمواج الغيوم بل صواريخ [...] قطاع غزّة الآن أصبح محاصَراً بشكل فظيع، بالقصف والظلام والخوف والجوع.. أزمة إنسانية.. لا ماء ولا...
أستدعي ذاكرتي، أبحث فيها عن السلام والهدوء وحسن التقدير...
سألتُ مرّةً الشاعر الروماني مارين سورسكو، وأنا أقصدُ شعوب البلقان:
- ماذا تفعلُ الشعوبُ حين تندلع نزاعات وعنف وحرب؟
جاءت إجابته صالحة للجميع في كلّ الأزمنة:
- ليقرأوا الشعر! قالها بحدّة لطيفة.
قلتُ في نفسي: إجابةٌ تعبّر عن مفارقة ممتازة!
أعود إلى الأرض المقدّسة، التي تنبض شعراً بالتأكيد.


■ ■ ■


عند حائط البُراق 

جئنا لنتلمّسه وندسّ في شقوقه أمنيةً حسب الشعائر. إنه حائط الديانات الثلاث المسيحية والإسلام واليهودية ونزاعاتها أيضاً.
كنتُ أرغب أن أدسّ في أحد الشقوق هذه القصيدة:
حجارةٌ كبيرة من الدموع
حائطٌ صامد عبر القرون
كالدموع،
مع تلك الشقوق العميقة -
أحزان الإنسان...
هل يمكن أن أترك قصيدتي هنا؟
أرجو أن يتوقّف التاريخ
لكي لا يعود بمجازر جديدة،
لكي لا يضخّ الحاضرُ الدمَ
كالماء من الأنابيب المهشّمة
من بناء تعرّض للقصف.
متى ستؤول شقوق الحائط الفارغة
إلى أعشاش لحمام السلام؟

مع دموعك أبكي الآن مستنداً إلى زيتونة كما إلى الصليب
 

■ ■ ■


ناقة فلسطين

أتذكّر حين انتقلتُ من "إسرائيل" إلى فلسطين أنّ الأمر جرى بسرعة، كما بدا لي، أعتقد لأنّنا كنّا قادمين من أميركا.
فلسطين.. الضفة الغربية، يبدو الفرق، هنا غبار ومخلّفات... هذه البلاد غنية بالزراعة والأشجار كما يرد في الدليل السياحي، ولكنّها بدت لي كالصحراء. جئنا لأمرٍ آخر، لكي نتتبّع خطى آلام المسيح "في جبل الزيتون" في...
ولكن أريد أن أتحدّث الآن عن الناقة التي رأيناها، التي بدت لنا بعد العودة رمزاً لفلسطين: كبيرة، مسالمة إلى حدّ الإحباط، كما بدت لي. كتبتُ في مفكّرتي هذه القصيدة التي نشرتها في مجلة "إكس ليبرس" ExLibris مع عدّة قصائد أُخرى عن الأرض المقدسة:

الصورة
ناقة فلسطين العظيمة
لا تنزلي على ركبتيك لأجلي، أيتها الناقة (Getty)


■ ■ ■


ناقة فلسطين العظيمة

ناقة فلسطين عظيمة
أين تذهب هكذا مع الرَّحْل الثقيل عليها،
على البساط فوق ظهرها
الأزهار الوحيدة الباقية من الصحراء،
أراك غير مرتاحة بين السيّاح،
خمسة دولارات فقط لمن تحملينه،
بأي كلمة عربية تنحنين على ركبتيك؟
تبدو على ركبتيك المسلوخة جروح جافة،
لك سيرة طويلة وأصبحتِ رمزاً للصبر!
من الأرض تنهضين على أقدامك الطويلة
كحَفْرٍ جميل على خشبة زيتون،
لا تنزلي على ركبتيك لأجلي،
لا، لن أركب أنا 
ولماذا تحمليننا؟
لا أتحمّل صبرك الخانع 
فدَمُ الحيوان إنسانيٌّ أيضاً.
هل تتعبين أكثر وأنت تحملين مصيرك 
أم لعنة الصحراء؟
لا تذهبي أبداً بذلك الرَّحْل الثقيل
أيتها الناقة
ناقة فلسطين العظيمة.

أجنحة الطائرات تمسّ وتجرح العنق الطويلة للسماء

الآن تعاودني تلك الناقة مثل فلسطين، التي تُحمّل فوق طاقتها من ناسها.
كنتُ أرى كيف تنزل على ركبتيها مرّة بعد أُخرى، حسب ما تُؤمر به، بينما تتمّ مساعدة الشخص على الركوب عليها وسط هتافات المصاحبين، وكيف تنهض وهي تهتزّ كأنّها هضبة رمال، وتبدو التشقّقات على جلدها ولحمها في الركبتين، بينما هناك تحت جفونها ذلك الخطّ الجاف للدموع. كانت تعاني كما بدا لي، ولذلك قرّرتُ ألّا أركب عليها. كان معنا شابٌّ أميركي في عمر ابني، يُدعى جرمي جيمس، رفض أيضاً أن يركب الناقة لجولة صغيرة مقابل خمسة دولارات. قال لي إنّها تعاني.
سألت صاحبها عن اسمه:
- خضر.
- كيف حالكم سيّد خضر وكيف تعملون؟ سألته بفضول.
- كما ترى، يأتي السيّاح ويذهبون، ونضحك معهم كما ترى.
- ومع الإسرائيليّين؟
- سيئ...
سيئ، لماذا؟ تعاطفتُ معه كإنسان، كما تعاطفت مع ناقته... كما مع فلسطين التي تعاني من ناسها ومن حكّامها بشكل سيئ! لم أفكّر حينئذ أنّه من تلك الكلمة الوحيدة (التي نطق بها خضر) ستتمخّض حربٌ جديدة، عنيفة إلى هذا الحد. الآن أفكّر في هذا وأنا بعيدٌ، بعيد جدّاً في شيكاغو، وعدتُ للكتابة عن الناقة.
أعرف ماذا ترمز.. ولكن ماذا عن أولئك الذين حوصروا في غزّة؟
أشعر بالحاجة إلى الكتابة، إلى الشعر أيضاً؟

فلسطين هي الناقة
هي من صحرائها،
كبيرة مثل رمال عدم التفاهم التراجيدي...
في ركبتيها تبدو الحرب
تبدو الجراح
على جلد حياتها الممزّقة،
التي تشبه أطراف سطوح البيوت المتهالكة.
الدمعُ الجاف في عيون الناقة
دليل على قلّة الماء في الجوار،
وعلى أمر صارخ أكثر.
هل تشعرين بالألم؟
هل اسمك رحمة!
لا يوجد اسم تعبّر عنه الكلمات...
فلسطين
تحافظ على روحها
مع تلك الناقة المحتارة
كعبء ثقيل.
على من ترغين؟
تلك الأسنان التي تبتسم دون معنى،
تلتمع كحدّ سكّين يقطع الأشعّة
كحزمة عشب حول فم الناقة.
أجنحة الطائرات تمسّ العنق الطويلة للسماء
والدبابات قد تمحي آثار ذاكرة الأرض.
لا أريد أن أتذكّر أكثر،
على ظهرك الحرب
وأصلّي لكي تتوقّف.
مع دموعك أبكي الآن
مستنداً إلى زيتونة كما على الصليب
من الأرض المقدّسة...

 

* مقاطع من مقالة طويلة بعنوان "مع الشعر في أيام الحرب"، نُشرت في جريدة "بانوراما" الألبانية في 4 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري.

** ترجمة عن الألبانية: محمد م. الأرناؤوط


بطاقة

الصورة
فيسار جييتي

Visar Zhiti شاعرٌ وكاتب ألباني، ووزير ثقافة سابق من مواليد دورس بشمال ألبانيا عام 1952. تخرّج من "المعهد التربوي العالي". عمل في التعليم وبدأ يكتب وينشر قصائده الأُولى. في 1973، أرسل للنشر مجموعته الشعرية "ملحمة حياة الورود"، وهي السنة التي أطلق فيها الحزب الشيوعي حملة على "الميول الليبرالية" في الأدب، فاعتُبرت مسيئة لـ"الواقعية الاشتراكية" وحُكم عليه لاحقاً بالسجن لمدة 13 سنة. في 1983 أُطلق سراحه على أن يشتغل عاملاً في معمل للطوب. بعد سقوط الحكم الشيوعي، أصبح مديراً لدار النشر التي منعت نشر مجموعته الشعرية الأُولى، ونشر في 1993 مجموعته الأُولى "ذاكرة الهواء"، التي تضمنّت قصائد من السجن. في 1994، نشر مجموعته الثانية "ألقِ جمجمة عند قدميك"، التي تضمنت مئة قصيدة من سنوات السجن. نشر بعدها عدّة مجموعات شعرية وقصصية وصولاً إلى أوّل رواية له "حذاء الممثّل" التي صدرت في 2022. يُعتبر من أبرز شعراء ألبانيا في المرحلة المخضرمة بين الشيوعية والديموقراطية.

 

المساهمون