هل يستطيع قارئ رواية "حكاية جدار" للأسير الفلسطيني ناصر أبو سرور (دار الآداب، 2022) أن يضع نفسه مكانَ أسير في السجون الإسرائيلية؟ يُبدع هذا النصّ في وصف تفاصيل المعاناة بأعمق المشاعر الإنسانية، وهو ما قد يدفع أيّاً منّا لإحساسٍ عميق بالذنب حيال إخواننا وأخواتنا الأسرى، لكوننا نتابع حياتنا خارج الجدران التي يعيشون داخلها. لكنّ الاستغراق في قراءة هذا النص قد يضع أيّاً منّا في الزنزانة، أكُنّا داخلها أم خارجها.
أيضاً، لا يستطيع المرء حيال براعة الوصف وتناسُل الخواطر التي لا تتوقّف عن السيلان إلّا أن يتورّط في هذا السيل الجارف من التفاصيل المؤلمة أو المحفّزة على التفكير في ما هو عصيّ على التخيُّل. عواطف وتداعيات فكرية يعيشها محكومٌ بالمؤبَّد بين جدران السجن، تمنعنا من أن ننشغل بتصنيف الجنس الأدبي لهذا النص المروّع ومُفْرط المشاعر والأفكار. أهو حقّاً رواية كما يُذكَر على الغلاف؟ أم أنه سيرة ذاتية لأسير فلسطيني؟ أم توثيق لمحطّات مفصلية في النضال الوطني الفلسطيني، في مراجعة نقدية لهذا النضال بشعاراته وقياداته وسلطته "الوطنية" التي وصلت قيادتها إلى حدّ التواطؤ مع العدو؟
لا يتردّد أبو سرور (1969) من خلال حكايته في نقد التجربة والنخب الفلسطينية، بما يُفقد أحياناً سجين "الجدار" عزاءه في الأسر ويعمّق خيبات أجيال متعاقبة من المناضلين والمناضلات. مشاعر نبيلة صادقة ترِد على لسان الراوي، الأسير، وتُعاكس مألوف الصورة التي قد نحملها عن الأسرى خارج مألوف ما نعرفه عن حياة الأسْر، وإن أمكننا تخيُّل تفاصيل بعضها.
يعرّج ناصر أبو سرور في "حكاية جدار" على إشكاليات التحقيق التي يمارسها محقّقو الاحتلال، ويناقش، كمَن يتحدّث إلى نفسه وإلى قرّائه، مفهوم "الخيانة"، بما هي اعترافٌ تحت وطأة التعذيب. يثير فينا الأسئلة خارج نمطيتها المألوفة ليطرح تساؤلات جريئة، ربما قلّة منّا يفكّرون في طرحها، كما أنّ قلّة أيضاً يحاولون تخيُّل ما تفعله سنوات "المؤبَّد" في علاقة الأسير مع جدران زنزانته.
يثير فينا الأسئلة خارج مألوفيتها ليطرح تساؤلات جريئة
يحاول الأسير اتّباع منهج الفيلسوف الدنماركي سورين كيركغورد في مفهومه عن التخلّي (بعد قراءته لمقالة داخل أسوار السجن حول أنّ التخلّي عن الحبيب/ الحبيبة هو أفضل الطرق للحفاظ على الحبّ، عبر التنكُّر لغرائز التملُّك والأنانية، حيث يرى كيركغورد أنّ ذلك ممكنٌ فقط عن طريق "اللامعقول الإيماني"). هذا يعني التخلّي عن كلّ ما هو زائل في سبيل "متعالٍ لانهائي"، لكي "نرتدّ بقوّة اللامعقول ذاته إلى لحظاتنا الفانية". فيعيده كيركغورد إلى شتاء 1993 في الزنزانة رقم 24 بقسم التحقيق في سجن الخليل، وإلى ثلاث كلمات حفرها على جدار تلك الزنزانة: "وداعاً يا دنيا".
لم يكن حينها أبو سرور يعرف كيركغورد ولا تخلّيه، "لكن يبدو أنّي عرفت منذ البداية أنّ عليّ التخلي عن سؤال الحرّية، ومعانقة ذلك الجدار، مدركاً تماماً أنّي أفعل ذلك كآلية دفاعية عزّزتْها غريزة البقاء، وغير واعٍ أنّي كنت أنزع الحرّية من ضِيق السؤال إلى فسحة الخيال، متخلّياً عن الحرّية كسؤال مُلِحّ ينتظر الإجابة، متمسّكاً بها كحلم يظلّ جميلاً حتى حين لا يتحقّق. وكأي فلسطيني وعى عبوديته، وتقلّصت خياراته، فكان عليه أن يفقد حريته من أجل أن يتحرّر، وأن يموت في سبيل أن يحيا".
سردٌ روائي يصعب الفصل فيه بين الواقع والخيال. هل هي لعبة ناصر أبو سرور الروائية، أم مناجاة فلسفية روحانية يتيحها اتساع الوقت داخل جدران السجن؟ فمعاناة الأسرى والفلسطينيين والفلسطينيات، أيّاً كان موقعهم وموقعهنّ، هي عصية على التصديق، من فرط الانتهاكات المتمادية التي وصلت مبالغات الاحتلال فيها إلى حدّ اللامعقول، إن كان في وحشيتها أو في استمرارها. إذ تحمل في جعبتها زمناً لانهائياً من تداعيات نفسية وفكرية تصل إلى حدّ الاستغراق في محاكاة فلسفية لتجلّيات المعاناة. بل ربما تعجز الرواية الفلسطينية عموماً عن الارتقاء بتخييلها إلى مستوى اليومي الذي يعيشه الأفراد أو المجتمع بأسره وبكلّ تشظّياته.
وربما هذا ما أراد ناصر أبو سرور أن يأخذنا إليه في رحلة الانعتاق التي خاضها كأسير وكاتب عبر الرضا والتسليم ومعانقة الجدار. طبعاً، مع ما يستدعيه ذلك من هوامات يعيشها بالروح خارج إطار الجسد المادي. بل يصل الأمر به حتى عيش العشق مع حبيبته "ننا" عبر رسائل تُفصح عن هذا الانعتاق في حياة الجسد، وهو بذلك يخترع شخوصاً لروايته ربما هي موجودة في الواقع، كشخصية أمّه مزيونة، لكنّه أيضاً يجرّدها من حسّيتها وينعتق معها في التخلّي عن سؤال الحرية.
البنية السردية لـ"حكاية جدار" تتسلسل حيناً وتتفكّك أحياناً أُخرى، وتتبدّل أجناسها، لتروي من خلف الجدار "السردية الفلسطينية التي ما تزال تتشكّل وتمضي قُدُماً في التشكّل"، كتاريخ معيش للجماعة الوطنية ولحيوات نساء وشبّان انخرطوا في الانتفاضات المتكرّرة، كما تاريخ المدن تلك التي استمدّت قدسيتها من تعاقب رسالات الأنبياء: موسى وعيسى ومحمد... وهو إذ يستمر بتأريخ بعض الأحداث التاريخية الحديثة، فإنّ سرده يتغلغل إلى عمقها الإنساني، وتخبُّط المناضلين في انتفاضاتهم الحجرية والمسلّحة، والراوي واحدٌ منهم.
يُخصّص أبو سرور لانتفاضة الأقصى فصلاً كاملاً بأسلوب توثيقي إخباري أكثر منه سرداً روائياً ــ كما هو الحال مع أحداث أُخرى ــ ويستفيض بالتباسات واقعها وشعاراتها. بل يُفرد العديد من صفحاته لتناول أحداث عالمية وعربية وانعكاسات الأزمة المالية العالمية على إنضاج ثورات الربيع العربي. يكتب ذلك بقلم محلّل وإعلامي ومفكّر وسياسي، بما ينمّ عن ثقافة واسعة واطّلاع معرفي كبير، أسعفه في ذلك تحصيله بكالوريوس في الأدب الإنكليزي ودرجة الماجستير في العلوم السياسية من داخل جدران السجن. وهو بذلك ينهج نهج روائيّين عرب وأجانب في المساهمة في تطوّر تاريخ الرواية بنيةً وأشكالاً سردية، في مزيج من أجناس أدبية متنوّعة شكّلت مبنى فريداً لِمَا سمّاه "حكاية جدار".
ويفرد الأسير فصولاً نقدية للحديث عن تاريخ مخيّم على هامش مدينة يسوع، حيث صُلب أو وُلد، ويطرح إشكاليات العلاقة ليس مع مستوطنات الاحتلال، بل مع المدن التي أدارت ظهرها للمخيّم، وتشكّلت عند خاصرتها مخيّمات اللجوء داخل الأراضي الفلسطينية التي احتُلَّت في 1967.
لكنّ الأجمل في متعة السرد هي تلك القصائد التي نظمها لحبيبته "ننا"، التي عاهدته على الانتظار إلى أبد الحياة أو نهاية مؤبّده، وتبادل معها في "حكاية جدار" أجمل حوارات يمكن لها أن تجري بين حبيبين، ببساطتها أو بعمقها الوجداني. ويظهر أبو سرور، في هذه الرسائل، شاعراً وليس روائياً فقط. يحترق بنار العشق والانتظار؛ هو الأسير الذي يعيش عناق الحبيبة في معانقته للجدار وتعلُّقه به. وهنا تجدر الإشارة إلى ديوان شعري أصدره ناصر أبو سرور من خلف قضبان الزنزانة حمل عنوان "عن السجن وأشياء أُخرى" (دار الشروق، 2021).
يستند إلى فلسفة كيركغورد في معالجته لمسألة الانعتاق
يتمنّى ناصر أبو سرور لقرّائه "قراءةً وعرة". لا نعلم إن كانت تلك الأُمنية تصدر عن تبدُّل البنية السردية، بين السرد والتوثيق والسيرة الذاتية ممزوجةً بقصائد قُرضت خصّيصاً من أجل" حكاية جدار"، بما يضعنا في مواجهة بنية زئبقية يصعب إمساكها أو الاستكانة إليها. ربما، كما هي حال الأسير حين يلجأ السرد إلى جدار كأحد شخوص هذا النص البديع والوعر شكلاً ومضموناً وبنى فنّية سيطرت عليها لغة رقيقة وقاسية، وتعابير تفوّقت جماليتها على بلاغة السرد وتحليقه على جناحي الواقع والخيال.
فحين يصل نبأ استشهاد الأسير فارس بارود في السادس من شباط/ فبراير 2019 في "سجن رامون" الصحراوي، بعدما قضى ثلاثين عاماً من مؤبّده، يرثيه ناصر أبو سرور من القلب، كفارس يترجّل عن جداره. وربما هذا ما دعاه إلى سرد حكايته مع الأسْر بوصفها حكاية جدار، إذ يقول: "سأكمل الحكاية من أجل فارس وكلّ الذين سبقوه من فرسان، وآخرين لم يترجّلوا بعد، وغيرهم لم يُتقنوا فنون الجدار ومهارات التعلّق ونجاة الالتصاق، لا ليتعلّموا منها أو يستقوا منها عِبَراً ودروساً. فلكلّ جدار حكاية وصاحب يرويها، ولكلّ صاحب عالمٌ وفضاءٌ وضِيق، له أبجدية وأشباهُ أشياء وأشياء أُخرى اكتملت، وله وجعٌ وانتظار، وله حق الرواية... ".
وإذ يتماهى الراوي مع جداره، الثابت الوحيد في حياته، فلأنه الشاهد على حكايته حين يتقمّصه الجدار: "لقد أعطاني الجدار صفاتي وألقابي كلّها منذ بداية المشوار، وقرّر أن يختارني شاهداً على ما يقول ويفعل". ويتوتّر حين يجري نقله إلى سجن عسقلان، "فيما ثلاثة أرباع الساعة تفصلني عن جدارين، واحد أحمله وثان يحملني، وكلاهما أنا".
وإنْ كنا نعتقد أنّنا نعرف الكثير عن معاناة الأسرى الفلسطينيّين في سجون الاحتلال الصهيوني، فإنّنا نُدرك، مع "حكاية جدار"، أنّها قاصرةٌ معرفتُنا تلك.
* كاتبة وصحافية فلسطينية