في كلّ رمضان، تنهمك شركات الإنتاج منذ عدة عقود في تصوير مسلسلات تستعيد البيئة الشامية بمسميات مختلفة من "باب الحارة" إلى "حارة القبة"، وهي تتلوّن بالتعامل مع السلطات الحاكمة (العثمانية ثم الفرنسية) بتقلّب العلاقات مع تركيا الأردوغانية وفرنسا الشيراكية أو الماكرونية.
لكنّ ما هو مسيء ومُجمَع عليه هو تنميط المرأة الدمشقية ضمن صورة مسطّحة لا تأخذ بعين الاعتبار تطوّرات الوضع على الأرض في السنوات الأخيرة للحكم العثماني ثم سنوات الحكومة العربية (1918-1920)، التي تمرّ كأنّها لم تكن ولم تترك أيّ أثر على الرغم مما أنجزته وما يذكّر بها إلى الآن.
تمّر هذه المسلسلات وكأنّما لم يكن هناك إعلان لاستقلال "المملكة العربية السورية" في 8 مارس/ آذار 1920، لأنّ هذا اليوم يُغيّب تماماً لصالح 8 مارس/ آذار 1963 (وصول "البعث" إلى الحكم) أو كأنّما لم تكن هناك حركة نسائية ناشطة نجحت في جعل سورية من أوائل الدول في العالم التي تناقش في مشروع دستورها في 1920 منح المرأة الحق في الانتخاب.
هذا الزخم المفاجئ في ذلك الوقت عبّرت عنه الكاتبة والناشطة النسائية نازك العابد (1887-1959)، التي لم تأخذ حقها في اهتمام المؤرخين السوريين ولا يوجد اليوم منشأة أو مؤسسة تحمل اسمها في دمشق رغم إسهاماتها المبكرة في الحياة السياسية والصحافية وصولاً إلى معركة ميسلون، ثم تابعت نشاطها في بيروت بعدما تعاون ابن عمها محمد علي العابد مع الانتداب الفرنسي (وزيراً للمالية خلال 1922 و1925 ثم رئيساً للجمهورية 1932-1936). ومن المفارقة هنا أن تكون المؤرخة الأميركية إليزابيث تومسُن - التي درست في دمشق وتشتغل على التاريخ السوري الحديث - أول من كشفت عن دورها (بالاستناد إلى مصادرها) في كتابها "مواطنو المستعمرات" (1999) ثم في كتابها الصادر حديثاً "كيف سرق الغربُ الديمقراطية من العرب: المؤتمر السوري في 1920 وتدمير التحالف التاريخي الليبرالي- الإسلامي فيه" (2020)، الذي نأمل أن يصدر بترجمة عربية قريباً.
جمعت بين الدفاع عن حقوق المرأة وهواجس الحركة الوطنية
وُلدت نازك العابد في دمشق عام 1887 في أسرة صاعدة بقوة في التاريخ العثماني- السوري جاءت من الشمال (نواحي المعرّة) إلى جنوب دمشق (حيّ الميدان) حوالي عام 1700 لتعمل في تجارة الحبوب، فبرز مؤسّسها الحقيقي عمر آغا العابد في مطلع القرن التاسع عشر. وكان من أولاده محي الدين هولو باشا (1824-1895) الذي برز في الإدارة العثمانية الحديثة ليصبح عضواً ثم رئيساً لمجلس إدارة ولاية الشام. وقد برز من أولاده اثنان على المستوى العثماني- السوري: الأول أحمد عزت باشا العابد الذي ارتقى ليكون السكرتير الثاني للسلطان عبد الحميد، الذي أصبح ابنه محمد علي أول رئيس للجمهورية السورية (1932- 1936)، والثاني مصطفى باشا العابد (والد نازك) الذي كان متصرّفاً على الكرك ثم على الموصل إلى أن عُزل السلطان عبد الحميد في 1909 وتعرّضت العائلة للنفي إلى غرب الأناضول (إزمير).
في هذه الظروف، ولدت نازك وحصلت على تعليم جيد وقد شغفت بتعلّم اللغات، واستفادت من وجود العائلة في إزمير لتلتحق بالمدرسة الأميركية هناك وتتعلم التصوير والرسم. ويبدو أنّ تطورات الحركة الوطنية في تركيا الجديدة بقيادة مصطفى كمال، التي برزت إلى جانبه الكاتبة والصحافية خالدة أديب، كانت نموذجاً ملهماً لنازك العابد، التي انخرطت بعد عودتها إلى دمشق فوراً في الحركة الوطنية التي تطالب بدولة عربية مستقلة في بلاد الشام وفي الحركة النسائية التي تطالب بحقوق المرأة.
كان هذا الزخم الجديد في بلاد الشام في ربيع 1919 نتيجة للمعركة الدبلوماسية التي قادها الأمير فيصل في مؤتمر الصلح وتعاطف معه الرئيس الأميركي وودرو ولسون الذي طالب بإرسال لجنة تحقيق دولية باسم مؤتمر الصلح للتحقق من رغبات السوريين بالاستقلال. وكانت لهذا القرار تداعياته، إذ دعا الأمير فيصل السوريين إلى انتخاب مؤتمر سوري يعبّر عن رغباتهم أولاً ويقوم بوضع دستور للدولة المنشودة.
وصلت هذه اللجنة (التي تحوّلت إلى أميركية بعدما رفضت فرنسا وبريطانيا تسمية ممثلين لهما في اللجنة) إلى فلسطين أولاً ومنها جالت في بلاد الشام لتستمع إلى وفد المؤتمر السوري في دمشق والوفود الشعبية الأخرى التي جاءت خصيصاً لإسماع صوتها. كان كلّ أعضاء هذه الوفود من الرجال، لكنّ المفاجأة كانت حين قادت نازك العابد وفداً نسائياً إلى مقرّ اللجنة حيث كشفت عن وجهها بجرأة لتنقل لأعضاء اللجنة صوت السوريات أيضاً، مما كان له صدى لدى اللجنة وفي المجتمع السوري المحافظ.
كانت نازك العابد تتّقد حماسة في هذه اللحظة التاريخية، وهو ما بدا في كتاباتها وفي مبادراتها الجمّة التي لم تزل تنتظر الكتابة عنها بالاعتماد على المصادر وليس بالإنشاء فقط. كانت ماري عجمي (1888-1965) الرائدة في الحركة النسائية السورية قد أصدرت مجلة "العروس" في حمص عام 1910، التي نشرت فيها العابد أول مقالاتها. لكن، مع إعلان الأمير فيصل تأسيس الحكومة العربية في دمشق عام 1918 بادرت نازك العابد في 14 مارس/آذار 1919 إلى تأسيس "جمعية نور الفيحاء" التي تعنى بتعليم البنات، ثم أصدرت جريدة شهرية نسائية في بداية 1920 باسم "نور الفيحاء". في غضون ذلك كانت العابد قد أسّست "مدرسة بنات الشهداء" بدعم من الأمير فيصل الذي خصّص لها أرضاً مناسبة في الصالحية، ولذلك، حين صدر العدد الأول من "مجلة نور الفيحاء" جاء في آخره أنّ "إدارة المجلة في مدرسة بنات الشهداء".
نشأت في تركيا حيث تأثّرت بصعود الحركة النسائية هناك
تستحق أعداد هذه المجلة دراسة جادة للتعرف على كتابات نازك العابد الوطنية والنسوية المطالبة معاً بالاستقلال وتحرير المرأة من الجهل والتخلف، وعلى ما كانت تنشره من مقالات مختارة بدقة لتساهم في ذلك، كما كانت المجلة تنشر مقالات لكتّاب وكاتبات، تساهم بدورها في هذه الرسالة الوطنية والتحررية للمرأة السورية. فقد كانت المجلة تُفتتح بركن "شهيرات النساء" لكي تنوّر المرأة السورية بأسماء كان لها دورها في التاريخ العربي والإسلامي والعالمي. وهكذا عندما اختارت لهذا الركن السيدة سكينة بنت الحسين، أبرزت أنّها "كانت سيدة نساء عصرها ومن أجملهن وأطرفهن" و"أوفرهن ذكاء وعقلاً وأدباً، فالتفّ حولها الشعراء والأدباء وكان لها تأثير شديد في جميع أهل عصرها، حتى أنّها كانت تخترع الأزياء، فهي واضعة الطرّة السكينية المعروفة باسمها بين النساء". وفي أعداد أخرى كانت تعرّف بـ "أول مراسلة حربية" و"أقوى امرأة في العالم" إلخ.
وفي ما يتعلق بدورها في نشر الروح الوطنية بين السوريات وربط التحرر من الحكم العثماني بالتحرّر من "الحشرات السامة من التقاليد والعادات"، فقد حرصت على نشر المقالات التي تفتح الأذهان كما في مقالتها "فتاة الوطن أين أنت؟" المنشورة في العدد الخامس للمجلة (مايو/أيار 1920)، التي تحض فيها بنات جنسها على انتهاز هذه الفرصة (الاستقلال) للتحرّر من التخلف الذي سيطر عليهن طويلاً.
مع افتتاح المؤتمر السوري في صيف 1919، الذي أنهى مهمته الأولى في تقديم مطالب الشعب السوري إلى لجنة التحقيق الدولية وتحوّل إلى وضع دستور لـ"المملكة العربية السورية" التي أعلنت استقلالها في الثامن من مارس/آذار 1920، كانت نازك العابد حريصة على التردد على مقرّ المؤتمر الذي كان في "بناية العابد" رمز أُسرتها التي كانت تطلّ على "ساحة الشهداء" (المرجة)، حيث تعرّفت هناك على ممثل بيروت، محمد جميل بيهم العيتاني، المعروف بلقب "نصير المرأة"، وتزوجته لاحقاً. في هذا السياق، كانت العابد حريصة على حضور جلسة المؤتمر الحامية التي دار فيها النقاش حول حق المرأة في المشاركة في الانتخابات الأولى بعدما حسم المؤتمر نظام الحكم الجديد بأنه "ملكي مدني نيابي".
لكنّ تطوّرات الأوضاع المتسارعة التي قادت إلى معركة ميسلون وسقوط "المملكة العربية السورية" في 24 يوليو/تموز 1920 جعلت من نازك العابد كتلة نشاط لا تهدأ. فقد أسّست بعد إعلان الاستقلال "جمعية النجمة الحمراء" (التي سبقت جمعية الهلال الأحمر) لكي تتولى العناية بالمصابين من الحرب. ومع اقتراب القوات الفرنسية من دمشق منحها الملك فيصل رتبة نقيب في الجيش، فجالت ببدلتها العسكرية بدون حجاب في شوارع دمشق مع الجنود المتوجهين إلى ميسلون لتحضّ الدمشقيين على التطوّع والمشاركة في الدفاع عن الوطن، ثم لتذهب بنفسها إلى ميسلون باسم "جمعية النجمة الحمراء" للعناية بالمصابين في المعركة.
كانت نازك العابد مصابة في روحها بعد المعركة وسقوط "المملكة العربية السورية" وتقدّم جيل مخضرم من الساسة السوريين للتعاون فوراً مع سلطة الانتداب الفرنسي، الذي جاء باسم "عصبة الأمم" ليغطي على تنفيذ معاهدة سايكس- بيكو المعدلة في 1919، ومنهم ابن عمها محمد علي العابد الذي شغل منصب وزير المالية ما بين 1922 و1925 بعد فارس الخوري. ومع ذلك بقيت ملهِمة بريادتها وكفاحها، حتى أنّ الكاتبة البريطانية المعروفة روزيتا فوربس (1890-1967) التي جالت الشرق آنذاك استلهمتها في روايتها "قصة آن" التي صدرت في لندن عام 1922.
انتقلت نازك العابد إلى بيروت لتتزوج من "نصير المرأة" السياسي والمؤرخ محمد جميل بيهم (1887-1978) فتعاونا معاً في كثير من القضايا لاحقاً. عام 1931 أقرّت السلطات الانتدابية "قانون البغاء" الذي شرّع ممارسة الدعارة في منشآت عامة، وردّت العابد مع زوجها في 1933 من خلال تأسيس "جمعية مكافحة البغاء" في تحدّ لسلطات الانتداب. وفي 1948، عايشت العابد نكبة فلسطين وسارعت إلى تأسيس "جمعية تأمين اللاجئ" وانتُخبت رئيسة لمجلس إدارتها، لتساهم بدورها في تقديم المساعدات للاجئين الفلسطينيين.
نازك العابد تستحق أن تكون لها مكانتها في صفحات التاريخ السوري الحديث الذي لم يكتب بعد، ومن ذلك جمع أعداد مجلتها "نور الفيحاء" ووضعها إلكترونياً في خدمة الباحثين للتعرّف على فترة مهمة بين الحكمين العثماني والفرنسي لبلاد الشام.
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري