"إذا كنتَ لا تراه، فهو غير موجود. إنّها الإستراتيجية الجديدة التي يبدو أنَّ القضية الفلسطينية تعاني منها اليوم، في ظل ما يحدث من تغطية إعلامية وثقافية على الجرائم التي يرتكبها الكيان الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني منذ أكثر من سبعين عاماً. لكن فلسطين موجودة، والألم والعذاب الذي تمرّ به قائمٌ أيضاً منذ عقود، على الرغم من أن الكلام عنه يقلّ أكثر فأكثر، وعلى الرغم من محاولات إطفاء الضوء عمّا يجري هناك، إذ لا يكاد يوجد أي تركيز إعلامي على ما يحدث على تلك الأرض التي تسمّى فلسطين.
لكن مع ذلك، كل شيء يشير إلى أن فلسطين تشهد أعلى كثافة من الظلم لكل متر مربع ينتمي إليها. إن أنظمة غربلة الأخبار الجديدة هي السبب الرئيس في جعل هذا الظلم والظلام ممكنين. ونحن في هذا نواجه انجرافاً إخبارياً وإعلامياً في مجتمعاتنا الغربية، والذي كلما زاد ترابطه تسبّب في المزيد من المعلومات الخاطئة. في السابق كان علينا أن ننسى الفظائع التي يتم بثها يومياً تقريباً. أمّا الآن، ومن أجل راحة أكبر لضمائرنا، لا يقولون لنا شيئاً كي ننسى. ولكنّنا لن ننسى".
بهذه الافتتاحية، بدأ الناقد والروائي الإسباني أنطونيو ألتاريبا كتابه "فلسطين. الفن والمقاومة عند ناجي العلي" الصادر عن دار "Oriente y Mediterráneo" الإسبانية عام 2021، وكأنه تنبّأ بما يحدث الآن مع غزّة من خطاب إعلامي غربي يخفي الحقائق ويزوّر الوقائع أمام الإنسان الأوروبي الغارق في كماليات الحياة.
الحنظل جذوره عميقة ويتحمّل أقسى الظروف كأيّ طفل فلسطيني
يتناول الكتاب الذي قدّمته وعلّقت عليه الصحافية الإسبانية تيريسا آرانغرين؛ والتي تعدّ من أبرز المتخصصين في منطقة الشرق الأوسط وفلسطين على الخصوص، شخصية رسّام الكاريكاتير الفلسطيني العالمي ناجي العلي (1936 - 1987)، حيث يقدّم للجمهور الناطق بالإسبانية مسيرة هذا المبدع والمناضل الفلسطيني، التي تُعتبر بمثابة رحلة في المشهد الإنساني الفلسطيني على عجلة العدالة والحرية والإبداع.
يجمع الكتاب جزءاً من الرسوم الكاريكاتيرية التي رسمها العلي، على مدى عشرين عاماً، في صفحات صحف "الطليعة" و"السياسة" و"السفير" و"الوطن" و"القبس"، وغيرها من الصحف العربية، والتي شكّلت تسونامي من الرأي في العالم العربي. إنه بلا شك أحد أبرز المثقفين الفلسطينيين ورسامي الكاريكاتير في العالم العربي، الذي استطاع أن يعبّر عن روايته البصرية الرائعة وعن رواية شعبه الذي يتعرض لأبشع أنواع القهر والتعذيب، وأن يرسم هياكل القمع من خلال مخاطبة كلّ الضمائر. استطاع ناجي العلي، خلال مسيرته الإبداعية، أن يترك إرثاً متكوّناً من أكثر من 12 ألف رسم كاريكاتيري؛ جميعها تشكّل إدانة قاطعة وصادقة، وجميعها تدعو للبحث عن الحقيقة.
يبدأ الكتاب مع الرسومات الأولى التي نشرها العلي قبل أن يبتكر شخصية حنظلة في جريدة "السياسة" الكويتية في الأول من نيسان/ أبريل 1964، وهي كاريكاتوريات ذات طابع سياسي، وتحمل رسالة ضرورة المقاومة من أجل تحرير الأرض.
في هذه الجريدة نفسها، وتحديداً في الثالث عشر من تموز/ يوليو 1969، سيبتكر ناجي العلي شخصيّة محنية الرأس، يداها متشابكتان خلف ظهرها. كأنها في وضعية المفكّر الجوال. إنّها تتأمل بشاعة هذا الواقع الذي تراه أمامها. لكن هذه الشخصية ليست رجلاً حكيماً. ليست امرأة. إنّه طفل، وعمره عشر سنوات. والطفل لن يكبر أبداً. سيبقى حتى موت خالقه نفسه ابن عشر سنوات، أي حين غادر فلسطين. يبدو أن الزمن كلّه يتوقف عند فعل المغادرة الإجبارية الذي سببه احتلال الصهاينة لفلسطين منذ عام 1948.
ويبدو أن هذا الطفل سيعيش خارج قوانين الطبيعة، لأن ما يحدث للإنسان الفلسطيني، طفلاً، رجلاً أو امرأة، من عدوان وتشريد وقتل وتهجيرٍ، لا يمكن أن ينتمي لقوانين الطبيعية أو لأي قانون عرفه الإنسان. ولن يعود هذا الطفل إلى وضعه الطبيعي، ويكبر كباقي الأطفال، إلا حين تعود الأشياء إلى أصولها، والأراضي المحتلة إلى أهلها، والحق، عموماً، إلى أصحابه الحقيقيين. بهذه الطريقة يمكن أن نفسّر أن الطفل الذي رسمه ناجي العلي لم يكبر حتى الآن. ولا شك أنه ذلك الطفل الذي بقي موجوداً داخله. إنه العمر نفسه الذي طُرد فيه من قريته، وحياته، ومناظر طفولته، وأصبح لاجئاً. أما عن اسمه، فهو حنظلة، وهو مشتق من الحنظل؛ نبات مرٌ يفترش الأرض وأوراقه خشنة. جذوره عميقة في الأرض، ويتحمّل الجفاف والملوحة ودرجات الحرارة القصوى، كأي طفل فلسطيني.
يقدّم الكتاب 200 رسم كاريكاتير، يكشف الفنّان الفلسطيني الراحل من خلالها عن حقيقة الصراع العربي- الإسرائيلي، ويدين التواطؤ بين بعض الأنظمة العربية والولايات المتحدة و"إسرائيل". كل هذا يضعه العلي في قالب تاريخي وسياسي واجتماعي خاص بالعالم العربي، ملتقطاً فيه شعور الإنسان العربي والفلسطيني. فأمام حيرة حنظلة الذي شهد ما شهده من احتلال لأرضه، يعرّي ناجي العلي الطبقات المتشابكة من الدمار والمتواطئين معه، والحلقات المتعدّدة من الألم المشترك والأوجه اللانهائية لعنف الكيان الصهيوني، الذي يحشد التضامن بين الشعوب العربية. وعلى الرغم من أن الهدف الرئيسي لهذا الكتاب هو عرض جزء من إبداع ناجي العلي، واستخدامه الفن كوسيلة للمقاومة ولتحرير الأرض، فقد احتوى أيضاً على أجزاء من المقابلات العديدة التي أجراها العلي طوال حياته المهنية، وشرح فيها معنى فنّه، وتحدّث مطوّلاً عن حنظلة.
لن يكبر حنظلة إلّا حين تعود الأشياء إلى طبيعتها
يكتسب الكتاب أهمية كبيرة في هذا الوقت، لا سيما أنه يوثّق لتاريخ صراع الإنسان الفلسطيني المقاوم ضد الاستعمار والاستيطان الصهيوني. وفي الوقت الذي تتعرّض فيه غزّة لجريمة إبادة جماعية من قبل الصهاينة، وما يرافقها من خطاب إعلامي وثقافي غربي مُبرِّر، تقدّم رسومات ناجي العلي صورة واقعية وحقيقية مختلفة عن تلك الصورة التي تنشرها اللوبيات الصهيونية في الإعلام الغربي، والتي تساوي بين الضحية والجلاد.
ومهما كان من أمر، وعلى الرغم من كل الروايات التي تنشرها تلك اللوبيات، يبقى حنظلة طفلاً عابراً للحدود. وفكرته تتجاوز أي حد جغرافي أو ثقافي. إنه وطن مشتركٌ لأي إنسان يطالب بإنسانيته، بالعدالة، والحرية. إنه نموذج الإنسان الذي لا يقبل الاحتلال.
كلا، ليس حنظلة رسماً كاريكاتيرياً ساخراً. إنه قصة فلسطينية حزينة ومفجعة للغاية، بحيث لا يمكن أن تحدث فيها الفكاهة. كاريكاتير ناجي العلي، بقلم الرصاص الأسود الحاد جداً، ليس فقط بالمعنى اللوني، هو مرافعة واحدة وطويلة ضد الاحتلال والاستعمار، وضد الولايات المتحدة، راعية هذا الاستعمار. بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على رحيل ناجي العلي، لا يزال تاريخ فلسطين مفجعاً بالقدر نفسه، ولا تزال رسومات ناجي العلي حاضرة بالإبداع نفسه.