ضمن سلسلة "ترجمان"، صدر حديثًا عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" كتاب "مفهوم المجتمع في العلوم الاجتماعية: قراءة جينيالوجية" لأستاذ التاريخ الحديث في "جامعة لاغونا" الإسبانية ميغيل كابريرا، بترجمة الباحث المغربي في علم الاجتماع حسن احجيج.
يتضمّن الكتاب قراءة مفصّلة لكيفية تشكُّل المفهوم الحديث للمجتمع بوصفه كيانًا موضوعيًا ابتداء من عشرينيات القرن التاسع عشر؛ حيث فسّر علماء الاجتماع ذاتيات البشر وسلوكياتهم على أنّها نتائج للمجتمع. مع ذلك يُظهِر البحث التاريخي أنّ المفهوم الحديث للمجتمع ليس أكثر من وسيلة ذات صبغة تاريخية عَرَضِيّة لتصوّر العالم البشري وإضفاء معنى عليه.
يقسّم المؤلف منظّري علم الاجتماع إلى فئتين: الأُولى ظهرت في عشرينيات القرن التاسع عشر ويمثّلها أوغست كونت، والثانية نشأت في أربعينيات القرن نفسه ويمثّلها ماركس وإنغلز. ويعرض، بعد ذلك، خصائص هذا المنظور النظري والإبستيمولوجي الجديد، محاولًا في الوقت ذاته إبراز علاقة هذا المنظور بالتحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المرتبطة بالنظام الليبرالي، وكيف ساهم شعور هؤلاء المنظّرين بالإحباط مما اعتبروه فشل التوقعات السياسية لهذا النظام في تقويض مسلّماته النظرية والإبستيمولوجية ذات الطابع الفرداني، ولا سيّما مسلَّمتَي الفرد والطبيعة البشرية، ليقدّموا بديلًا نظريًا يرتكز أساسًا على مفهوم جديد للمجتمع باعتباره كيانًا موضوعيًا مستقلًا عن إرادة الأفراد ورغباتهم وأفكارهم.
تشكَّل مفهوم المجتمع الحديث باعتباره كيانًا موضوعيًا في العقد الثاني من القرن 19
يشير ميغيل كابريرا إلى أنّ مفهوم المجتمع الحديث باعتباره كيانًا موضوعيًا أو ظاهرةً موضوعيةً تشكّل أوّل مرّة في العقد الثاني من القرن التاسع عشر. ويمكن أن تكون مكوّناته قد اقتُرحت قبل ذلك الوقت؛ حيث أثيرت أولًا المسلّمةُ القائلةُ إن مجالَ العلاقات بين البشر يشكّل كيانًا نوعيًا ومستقلًا عن إرادة الذوات المشاركة التي تتحكم فيها آليةٌ داخليةٌ للتشغيل والتغيير التي لا تتحكم فيها الذواتُ بصورة واعية. إنها المسلّمةُ التي مفادها أيضًا أن هذا الكيانَ يمارس تأثيرًا سببيًا في الذاتية والسلوك البشريَين، وأن البشرَ ليسوا أفرادًا طبيعيين ومتحررين من الزمن، بل هم ذواتٌ متغيرةٌ ومُمَوْضَعَةٌ تاريخيًا.
وبمعنى آخر، ليس البشرُ أشخاصًا مُكوَنين مسبقًا وذوات سيدةً على نفسها تتصرف بقصدية وتنظم وتعيد تنظيم تفاعلاتها ومؤسساتها عندما تريد ذلك، بل على العكس، إنهم فاعلون تاريخيون يجسّدون ويعبّرون عن حالة اجتماعية معينة، حالة تضع شروطَ إمكانيةِ الفعلِ البشري.
ويلفت إلى أنّ صياغةَ هذه المسلّمةِ والمفهومِ الجديد للمجتمع لم يترتب عليها فقط قطيعةٌ عميقةٌ مع النظرة السابقة إلى البشر وعلاقاتهم وسلوكاتهم، فهي نظرةٌ قائمةٌ على مفهوم الفرد، وقد صيغت هذه المسلّمة والمفهوم الجديد على نحو صريح في معارضة مباشرة للأنموذج النظري الفرداني. وبالفعل، طُرح مفهوم المجتمع عمدًا بهدف انتقاد المفهوم السابق للفرد (ومقولة الطبيعة البشرية التي تشكل أساسه) ومحاربته واستبدال مفهوم آخر به.
ويواصل بأنّ مفهوم المجتمع انبثق نتيجة للتناقض الناشئ بين مسلّمات الأنموذج الفرداني والاشتغال الفعلي للنظام السياسي الليبرالي على المستوى العملي؛ إذ يمكن العثورُ على أصلِ العملية التي أدت إلى انبثاق المفهوم الجديد في خيبةِ الأملِ والاستياءِ اللذين شعر بهما بعضُ الباحثين من النظام السياسي الذي أفرزته الثورةُ الفرنسية.
وتعود تلك العمليةُ، بحسب المؤلّف، إلى الشعور بالإحباط من توقّعات النتائج الذي ترتّب على تطبيق هذا النظام السياسي، مضيفًا أنّ هذا الفشلَ، وما أنتجه من شعور بالإحباط، أسهما في إطلاق التفكير النظري وتوجيهه؛ ما أدى إلى صوغ مفهوم المجتمع.
ويرى كابريرا أنّ الاقتناعَ بأنّ تطبيقَ المبادئ الليبرالية لم يُثمِر النتائجَ المتوقّعةَ والمنشودةَ دفع إلى البحث عن أسباب هذا الفشل، وقد تبيّن أن الأسبابَ العميقةَ تكمن في الطبيعة الخاطئة للمقدّمات النظرية لليبرالية، كما أن الفشلَ لا يرجع إلى الخطأ أو النقص في تطبيق المبادئ الليبرالية فحسب، كما كان يؤكد الليبراليون المحبَطون، بل يرجع إلى أن الليبراليةَ كانت تستند إلى مجموعة من المسلمات النظرية الخاطئة وغير المبررة حول العالم البشري؛ ما حال دون أن تكون وسيلةً ملائمةً لتحقيق الهدف الذي تسعى إليه الثورة الليبرالية.
ولأن للفشل أسبابًا نظريةً، كان من الطبيعي أن يتعرض الأنموذجُ النظري الليبرالي لانتقادات شديدة بغيةَ وضعِ أنموذج جديد يسمح بالإكمال الناجح لعملية إعادة تشكيل المؤسسات السياسية والعلاقات التي بدأتها الثورة الليبرالية. هذا الأنموذجُ الجديدُ الناتجُ من ردّات الفعل النقدية ضد الليبرالية الكلاسيكية الفردانية كان هو الأنموذج الاجتماعوي.
مع دخولِ ثلاثينيات القرن التاسع عشر مرحلةَ الزَخَمِ، يقول المؤلّف، تزايد الشعورُ بالإحباط من النظام الليبرالي السوسيو-اقتصادي، وبدأ تغييرٌ حاسمٌ في الشعور يؤثر في كثيرٍ من الليبراليين الذين كانوا يؤيّدون هذا النظامَ ويدعمونه؛ إذ بدأ عددٌ متزايدٌ من الليبراليين في تبني تشخيصِ فشلِ الليبرالية، وأصبحوا ينتقدون الاقتصادَ السياسي الكلاسيكي علنًا، ويدافعون عن ضرورةِ إدخالِ بعضِ الإصلاحات على النظام الاقتصادي الذي يقوم على مبدأ المنافسة الحرة. كان بروزُ هذا النوع من الليبرالية الاقتصادية النقدية ظاهرةً جديدةً، ولم يكن الأمرُ يقتصر على قبول فكرةِ أن هذا النظامَ غيرُ قادر على تحقيق الهدف المنشود، بل كان أيضًا يعزو إلى المنافسةِ الحرةِ مسؤوليةً معينةً في هذا الفشل. وكانت الوقائعُ التي قدّمها النقادُ الليبراليون والتي ساعدت في كسر ثقتهم في الليبرالية الاقتصادية الكلاسيكية استمرارًا للتفاوتات الاجتماعية، ولانتشار الفقر.
تعود التعبيراتُ الأولى لخيبة الأمل من الليبرالية إلى العقد السابق، كما تشهد على ذلك أعمال سيسموندي، لكن تشكيلَ اتجاه واضحِ المعالمِ لليبرالية النقدية، مختلف بصورة واضحة عن الليبرالية السائدة، لم يتمّ إلا في العقد الموالي. ونتيجةً لذلك، دار خلال تلك السنوات نقاشٌ مكثفٌ وواسعٌ حول الفشل الاقتصادي الليبرالي وعلاقته الممكنة بمذهب المبادرة الحرة (Doctrine of Laissez-Faire).
المفهوم الحديث للمجتمع مفهومٌ جينيالوجي بالنسبة إلى طبيعته الإبستيمولوجية
في المحصلة، فإنّ الدافعَ الذي دعا الليبراليين النقديين إلى إعادةِ التفكيرِ في مبادئ النظرية الاقتصادية الكلاسيكية وتحيينِها هو نفسُه الدافعُ الذي دعا منظّري علم الاجتماع الجددَ في لحظة معينة إلى إعادةِ التفكيرِ في تلك المبادئ، وإعادةِ تحديدِ طبيعةِ المجال الاقتصادي ودورِه في تشكيلِ المؤسّسات البشرية.
ويرى الباحث بأنّ ما قام به المنظّرون الجددُ في الأساسِ هو مواصلةُ إعادةِ التفكيرِ النظري التي بدأها المنظّرون الأوائل. ومن أجل فهمِ انبثاقِ مفهومِ المجتمعِ وتفسيره باعتباره بنيةً اقتصاديةً، كان من الضروري الانتباهُ إلى شروطِ الانهيارِ النظري الداخلي ونطاقه، والذي عانى منه الأنموذجُ الاقتصادي الليبرالي. وقد ساعد هذا الانهيارُ (جنبًا إلى جنب مع مختلف الفردانيات الطوباوية) في تمهيدِ الطريقِ لانبثاقِ هذا المفهوم الذي يُعد نتيجة للتطرف النظري لتشخيصِ الفردانيات النقدية السابقة. ولمّا كان هذا التطرفُ يَتَمَثُّلُ في إسنادِ المسؤولية الكاملة للفشلِ الليبرالي إلى النظام الاقتصادي، فهذا يعني من الناحية النظرية أن الاقتصادَ يُمثِّل عالمًا مستقلًّا تحكمه قوانينُه الخاصة. ويترتّب على ذلك أنه من أجل إصلاحِ الفشلِ السوسيو-اقتصادي الليبرالي، ينبغي إنشاءُ مؤسّسات اجتماعية وسياسية تتوافق مع تلك القوانين، وهذا بالضبط هو الحلُّ الذي اقترحته الاشتراكية الماركسية.
يوضّح ميغيل كابريرا بأنّ المفهومَ الحديثَ للمجتمع مفهومٌ جينيالوجي بالنسبة إلى طبيعته الإبستيمولوجية؛ وأنّه نتاجٌ لعمليةِ التفاعلِ بين الواقع الملاحظ والمفهوم السابق للفرد، مضيفًا أنّ طريقةَ النظرِ الجديدةَ إلى الواقع البشري نتيجةٌ لتصورِ هذا الواقع وإدراكه من خلال العدسة النظرية التي وفّرها الإطارُ المفاهيمي الفرداني، وأنّ مفهومَي المجتمعِ والفردِ يمثّلان حلقاتِ سلسلة إبستيمولوجية لم تنفصم قطُّ رغم تأثيرِ الواقع. إن العلاقةَ بين كلا المفهومين علاقةُ تبعية جينيالوجية، حيث لم يكن من الممكن تصورُ أحدهما إلا بفضلِ الوجودِ السابق للآخر.
ويحاج المؤلّف بأنّ القولَ إنّ لمفهومِ المجتمعِ أصلًا جينيالوجيًا يعني أنه لا يمكن اعتبارُه مفهومًا تمثيليًا؛ أي التمثيل المفاهيمي لظاهرة موضوعية: المجتمع؛ بل على العكس، بما أنّ أصلَ المجتمع يكمن في عمليةِ تمايز جينيالوجي، فإنه ليس انعكاسًا لواقع موضوعي، بل هو الطريقةُ النوعيةُ تاريخيًا التي تمّت بها موضعةُ الواقع (أي تزويدُه بمعنى معين). لم يُنْتِج منظرو علم الاجتماع صورةً أفضل للواقع، بل منحوه معنى جديدًا، ولم يكن الأمر عندهم يتعلق بالاكتشاف الاجتماعي وتَمَثُّلِ المعنى الموضوعي للواقع البشري، بل يتعلق بفهمِ المخرجات غيرِ المتوقعة والنتائج غيرِ المقصودة للفردانية وإسنادِ معنى إليها في ضوء المسلمات والتوقعات للنظرية الفردانية نفسِها.