على الرفّ، لمحتُ كتاب ميشال سار Michel Serres الذي أصدره قبل سنتَين من رحيله عن عالمنا في حزيران/ يونيو 2019، وهو القسم الثاني من كتاب "الإصبع الصغيرة" (2012)، والذي كان قد أرسله لي صديقي إيريك من باريس حيث يعمل في مسرح موشكين. إيريك هولنديٌّ مأخوذ بالتقليعات الثقافية الفرنسية، وأنا أحبُّ هذا النموذج من البشر، حيث العقل لديهم يقظ ومتحوّل، ولو بفعل التقليعات، مقابل النموذج المستكين إلى قناعاته، يعني الميّت.
الكتاب كرّاسٌ صغير في حجم الكف صدر عن دار "مانفستو شجرة التفاح". يلتقي إيريك ميشال سار كلَّ صباح. بينما يكون الأوّلُ يعزق أو يشذّب زهور حديقته، يكون جارُه التسعيني ذاهباً إلى بيته أو عائداً منه، فيقف وراء سياج الأعشاب الذي يفصل الحديقتَين الخلفيّتَين ويتبادلان الكلمات القصيرة حول الصحّة والطقس.
أعود إلى الكتاب. عنوانه في الترجمة الحرفية "كان الأمر أفضل في ما مضى"، وإن كنتُ أُفضّل ترجمته إلى "كانت الحياة أفضل في ما مضى"، وهو ليس، كما يشير ظاهر المعنى، رثاءً للماضي وذكراً لفضائل حياة الزمن الذي انقضى في مقابل مساوئ العالم الحديث، بقدر ما هو عنوان ساخر من أولئك المسكونين بالحنين إلى الماضي، والذين يردّدون باستمرار لازمة الزمن الجميل. هؤلاء تجدهم في جميع المجتمعات والثقافات، وهُم عادةً ممّن تخطّوا الخمسين وكفَّوا عن التطوُّر، ولم يبق لهم سوى ماضيهم يجترُّونه. لذلك، فأنت تجد أغلب السيَر الذاتية، التي هي استعادةُ وبحث عن الزمن الذي انقضى، قد كُتبت في سنّ متأخّرة، باستثناء تولستوي الذي كتب الطفولة والمراهقة وهو في الثلاثين من عمره تقريباً.
عملٌ يسخر من أولئك المسكونين بالحنين إلى الماضي
ميشال سار، وهو في التسعين، يكتب مادحاً زمنه الحاضر، ساخراً من الذين يُردّدون: "كانت الحياة، أو الحال، أفضل في ما مضى".
تذكرتُ كتاب شتيفان تسفايغ "عالم البارحة"، وهو سيرة ذاتية ومديح لانهائي لعوالم أوروبا ما قبل الحرب الثانية، وأدركتُ لماذا انتحر بعد الفراغ من كتابته. تذكّرتُ هنري ميلر وهو يرثي الماضي في الحوار/ السيرة الذي أجراه، وهو في الثمانين، مع صديقه الفرنسي كريستيان دي بارتيا... يرثي باريس العشرينيات، باريس حركة دادا والسرياليين، وإنْ كان هو أقرب إلى حركة دادا. يرثي عصر الصعلكة مع يون، يرثي السينما الصامتة والأفلام المستخرَجة من الأعمال الأدبية الكبرى، قبل أن تستقلّ السينما بكتّاب السيناريو وتفكّ ارتباطها بالرواية إلّا عند الضرورة.
ميشال سار نقيض تسفايغ وميلر؛ إذ يمضي، وهو في التسعين، عبر ولهه بمنجزات الحاضر إلى المستقبل الذي يعني الخيال والابداع، ويهجو الماضي الذي يمثّله الشيوخ المتأفّفون من المستقبل، وفي تأفُّفهم يخلقون مناخاً ثقيلاً من الكآبة. يقول: "كنّا مقادين من موسوليني وفرانكو ولينين وستالين وماو تسي تونغ وبول بوت وتشاوشيسكو... كم أكاذيب تعرّضنا لها، كم معذَّبين في الأقبية سمعنا صراخهم، وكم جثث لأصدقاء لنا شاهدناها في المقابر الجماعية؟". هكذا يفتتح الكتاب، بهذه الصورة السوداء، هكذا يذكر زعماء العالم الثالث، ولكنّه لا يذكر من مساوئ الحقبة آلام الشعوب المستعمَرة ومعاناتها تحت الاستعمار.
وبعدها مباشرةً، ينتقل إلى تلك اللازمة لدى الكتّاب اليهود، أي إلى مسألة معاداة السامية في الماضي، أيام شبابه، بيد أنّه لا ذكر في كتابه لعنصرية الإنسان الأبيض في تلك الحقبة في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. وهو يرى العنصرية ما تزال قائمةً، ولكن ليس بنفس الحجم الذي كانت عليه في الماضي. صمت عن الأبارتهايد في جنوب أفريقيا وفي فلسطين، ما أسمّيه الإجرام بالصمت عن الجريمة.
صدر الكتاب في عزّ صعود الإسلاموفوبيا في أوروبا. لكنَّ صاحبه لا يرى معاناة المسلمين التي يشبّهها كثير من مثقّفي الغرب بمعاناة اليهود من أواخر القرن التاسع عشر إلى نهاية الحرب العالمية الثانية. أمّا معاناة الفلسطينيّين والروانديّين فلا ذكر لها في كامل الكتاب.
كتابٌ أوروبيّ محلّي لا ذكر فيه لمعاناة المستعمَرين
الكتاب أوروبيٌّ محلّي. ولأنه فرنسي، فهو يعامَل كما لو كان نصّاً كونياً، وبالخصوص في نظر أبناء المستعمَرات السابقة من "الملوَّنين" كما يسمّيهم "الرجل الأبيض".
ويستمرُّ الكتاب في وضع مقابلات بين عالم الأمس وعالم اليوم، فعبر عناوين الأيديولوجيا يردُّ على خطاب الجدّ الغاضب، وهو صوت يبتدعه الكاتب يعبّر عن الحنين للماضي، في مقابل الإصبع الصغيرة التي بحركة خفيفة تمضي إلى المستقبل.
الكتاب جدول مقابلة بين سلبيات الماضي وإيجابيات الحاضر ومنجزاته في مجالات الصحّة والرفاهية والحقوق: "عزيزتي الإصبع الصغيرة، لا تقولي هذا الكلام للشيوخ الذين أنا منهم. الأمر أفضل بكثير اليوم: متوسّط العمر أطول. لديك المسكّنات والضمان الاجتماعي والتغذية المراقبة والنظافة والعناية الصحية. تخلّصت من الخدمة العسكرية واختفت عقوبة الإعدام. تتمتّعين بالعقد الطبيعي وبالأسفار والعمل الخفيف وبالاتصالات المشتركة. أراك أحياناً خفيفة كعصفور، مثل النفس الروحي".
أخيراً، وكما يقول الممثّل فيليب بوفار: "الزمن الجميل هو كلّ ما حفظته الذاكرة بعيداً في غرفة التخزين الخاصّة بها، وأزالت عنه مساوئه".
مناهضة الحنين
بعد كتاب ميشال سار "كان الأمر أفضل في ما مضى" (الغلاف)، أصدر الكاتبان الفرنسيّان بيير أنطوان دولوميه وماريون كوكيه في 2018 كتاباً بعنوان "في الزمن الجميل" Au bon vieux temps عن منشورات L'Observatoire يهجوان فيه، بأسلوب ساخر، الحنين إلى الماضي، ويعتبران أنَّ جمال الأيام الخوالي أسطورة خطرة، فهي "تشوّه رؤيتنا للحاضر وتبعث فينا الخوف من المستقبل، وهي بالنتيجة مهدٌ تنمو فيه الأيديولوجيات الشعبوية".
* شاعر ومترجم من تونس