يظلّ النصّ كامناً، أي غُفلاً، على رفوف المكتبات، أو في أي مكان آخر، ولا يخرج إلى الوجود إلّا لحظةَ تعرُّضه لفعل القراءة، مثل المعادن التي تظلّ في جوف الأرض كامنة إلى أن يشرع الإنسان في استخراجها واستهلاكها.
ولا يخفى أن المترجِمين، عادةً، هم الذين يلفتون الانتباه إلى بعض الأعمال الأدبية، التي تقودُهم إليها المصادَفات في غالب الأحيان، أو تُقتَرح ترجمتُها عليهم من قِبَل أصحابها، أو دور النشر، أو يُحفِّزهم على نقلها ـ إمّا مِن لُغتِهم إلى غيرها، وإمّا العكس ـ الدَّعمُ والمساعدات التي تُقدِّمها بعض وزارات الثقافة، أو جِهات ذاتية أو معنوية، تُقدِّم هي أيضاً مكافآت، أو جوائزَ تشجيعية. كما لا يخفى أنّ العمل الذي يُنجِزه المترجمون معقَّد للغاية، وبمقدار تعذُّره على الوصف الشامل يَتعذَّر على التعريفِ الدقيق أيضاً.
وفي كلّ الأحوال، فإنّ ما يَحدُث للقارئ، الذي يشرع في قراءة نصّ سرديّ مثلاً، مِن اقتناعٍ بأن هناك "ميثاقاً سرديّاً" بينه وبين المؤلّف، وأنّ الشخصيات والوقائع والعوالم التي سيتعرَّفُها، أو التي سيطَّلع عليها، أو يكتشفها، لا إحالة فيها إلّا إلى ذاتها، وليس إلى مُعطىً خارجيّ حقيقي، فكذلك يحضر ميثاقٌ ضمنيّ بين قارئ النصّ والمترجِم.
ويتهيَّأ لي أنّ الجاحظ، وهو يتأمّل المُنجَز الترجَميّ على عهده، ويُنظِّر للترجمة في سياقه العربي، قد استحضر ما يُمكن عَدُّه "ميثاقاً للترجمة"، لمّا أشار إلى ضرورة توافر "شرائط [في] الترجمان"، التي منها "أن يكون بيانُه في نفس الترجمة، في وزن عِلمه في نفس المعرفة، وينبغي أنْ يكون أَعْلَمَ الناس باللغة المنقولة والمنقول إليها، حتّى يكون فيهما سواء". وجَليٌّ أن هذه الاشتراطات تَتعذَّر مُصادَفتها مجتمِعةً عند المترجِم، لأنّ الأكيد، حسب الجاحظ نفسه، هو "أن الترجمان لا يؤدّي أبداً ما قال الحكيم، على خصائص معانيه، وحقائق مذاهبه". ومع ذلك، فإنَّ مطالَبتَه الترجمانَ بتلك الشرائط، التي تكاد تكون تعجيزية، ومجرَّدَ إحصائه إياها، لا يُلغي إمكان توافُرها في المترجِم المُحتَمَل، الذي تحدَّث عنه والتر بنيامين.
متى ستُتاح للقارئ العربي قراءة ترجمات في شروط تحترمها؟
يُنبِّهنا بنيامين، في مقاله الرائد "مهمّة المترجم"، إلى أن العملَ الأدبيَّ يَضع في حسبانه، منذ لحظة ولادتِه، احتمالَ عثوره بين قُرَّائه على مُترجِمه الملائم، وأنه يُلحُّ في الوقت نفسِه على أنْ يُترْجَم بحَسب دلالة شكْلِه أيضاً، فتوضَع المسؤولية على عاتق المترجِم وحدِه، الذي يُفترَض فيه أن يَلتزم "بأداء الأمانة فيها"، كما قال الجاحظ.
والمعروف أن هذه الشَّرائط هي ميثاق الترجمة بين القارئ والمترجِم، وهي تخصّ الترجمة الإبداعية، أي التي تشمل الأجناس الأدبية، والتي غدتْ في هذا العصر الرقمي تَشْمل حتى الترجمة "التَّرْسَطية"، أي الترجمة السَّطرية، التي تُصاحب الأفلام والوثائقيات والاستجوابات إلخ.
لكنَّ القارئَ، من جهته، لا يَقْرب العمل الأدبي المترجَم إلّا وهو يستحضر ميثاقاً يُفتَرَض أن يكون المترجِم قد وفى به، ومَفادُه أنّه يطمئنّ إلى أن النص الذي بين يديْه هو عيْنُ النصّ في لغته الأصليَّة، بمعنى أنَّ مُترجِمَه لم يتدخَّل بتاتاً في العمل بالإضافة والحذف، والتحريف والتوجيه وغيرها من العمليات، التي لها اصطلاحات من قبيل التدجين، والتطويع، والتوطين، والتغريب، والتعريب، إلخ.
وضروريٌّ، في نظري، أنْ يُراعي قارئُ الترجمة مسألةً جوهرية، في البلدان غير الديمقراطية، قد تغيب عن ذهنه، وهي أنّ الرِّقابة ــ مُمثَّلة في السُّلطة (المحافِظة أو الديكتاتورية)، أو رجال الدين المتشدِّدين باحتجاجاتهم، أو دور النشر بخطِّها التحريري وسياستها، أو جهات أخرى نافذة ــ تتدخَّل بصيغ متعدِّدة، لتفرض على الترجمة شروطها، وأنّ المترجِم يمتثِل لها بالضرورة، خصوصاً إذا كانت مَصدر رزقه الوحيد، وهو ما لا يُمكن تصوُّر حدوثه في الغرب.
فهل من معنى "لميثاق الترجمة" في عالَمنا العربي؟ ومتى ستُتاح للقارئ العربي قراءة الأدب المترجَم في شروط تحترِمُه وتحترِم العمَلَ الأصلي؟
* أكاديمي ومترجم من المغرب