شكّلت شخصية العارف الصوفي مُحي الدين بن عربي (1165 - 1240م)، والذي تحتضن دمشق مزاره الشهير، إلهاماً فنّياَ للكثير من الكُتّاب والشعراء، حيث وجدوا فيه رمزيةً عالية يستطيعون من خلالها التعبير عن واقع الناس وطموحاتهم، وكذلك التفكير في مشكلات زمانهم بالرجوع إلى ما تختزنه سيرة الشيخ الأكبر من "كشوفات وكرامات"، لطالما أُوِّلت في سياق مواجهة الفنّان للسُّلطة وعسَفها، والتزامِه بمواقف المستضعفين. وهذا ما فعله الممثّل السوري نوّار بُلبل (1973)، عندما أدّى عمله المسرحي "مولانا" لأوّل مرّة عام 2017، عن نصّ كان قد كتبه المُخرج فارس الذهبي قبل ذلك بعشر سنوات.
يعود بُلبل ليقدّم عرضه المونودرامي من جديد (90 دقيقة)، عند الثامنة من مساء اليوم الثلاثاء وغداً الأربعاء، في "مركز زبيدة هانم الثقافي" بإسطنبول؛ وذلك بالتعاون بين "منتدى حرمون" و"منصّة لاسين" الفرنسية، والجدير بالذِّكر أنّ المسرحية كانت قد شاركت، خلال السنوات الماضية، في أكثر من مهرجان مسرحي حول العالَم، منها: مهرجان "أفينيون" الدولي في فرنسا عام 2019، و"مهرجان عشتار الدولي لمسرح الشباب" برام الله العام الماضي.
استلهام تراث صوفي لقراءة واقع سلطة سورية سياسية مستبدّة
يروي العمل حكاية عابد، وما يُعانيه هذا الشاب الدمشقي من اضطرابات وضغوطات بسبب تمايُز أفكاره عن المُحيط؛ وربّما أوّل ما يستوقفنا في هذه الشخصية، هو اسُمها نفسه، والذي يُحيل بشكلٍ أو بآخر، إلى القناعات الدينية التي يمتثل لها. وفي هذا دلالةٌ أولى إلى واقع الاستبداد السُّلطوي المفروض، فصحيحٌ أنّ المسرحية قد كُتبت قبل انتفاضة السوريّين عام 2011، وما تلاها من عمليات قمع وحشي، إلّا أنّ ما تحملُه من إشارات يستوفي الحقوق النقدية ضدّ الاستبداد والديكتاتورية.
بل إنّ استرجاع نصٍّ كُتبَ في زمن تصفه السلطة بأنه "زمن الاستقرار"، والقدرة على إعادة توظيفه بعد كلّ ما حدث، يكشف عن وعي بأنّ ذلك الزمن لم يكُن سوى قبضة أمنية مفروضة على سائر أفراد المجتمع.
تتقاطع في "مولانا" عدّة مواجهات، وهذا ما يمنح العمل احتداماً وقدرة على الإفصاح والتأويل معاً، فمن جهة أولى تظهر السلطة الأبوية القامعة، وهي تحجّم البطل وتزيد من عزلته، ثم تتزعزع تلك القناعات مع مواجهة ثانية أشبه ما تكون بالتحفيز، عندما يلتقي البطل مع صديقه الرسام عمران. ويصبُّ كلُّ ما سبق في نفسية عابد الذي يصل إلى حدّ المواجهة الثالثة والأخيرة مع ذاته.
أمام كلّ هذه التناقضات التي يعجّ بها المشهد، يلجأ عابد إلى مقام صاحب "ترجمان الأشواق"، وهناك يفيض بوجده، كما أنّه يبوح بما يُكنّه في نفسه، عن مجتمع مليء بالظُّلم والقسوة، وسلطة تُعزّز بقاءها بإدامة ذلك العنف، ونسج تحالفات من شأنها تسخير الديني في خدمة السياسي. بعد كلّ هذا، يُمكن لنا أن نتساءل أخيراً: هل كانت تلك السلطة التي يفكّك تحالفاتها نوار بُلبل في عمله، أن تسمح له بتقديم مثل هكذا عرضٍ على خشبة أحد مسارح دمشق؟