تقترب الحرب في السودان من شهرها الثالث. ومع كلّ يوم يمضي، تُلقي بظلالها المريرة على حيوات السودانيين والسودانيات كافة. بدورهم يلتقط الفنّانون معاناة أبناء وطنهم، وما يُقاسونه ممّا فرضه جنرالا الحرب (حميدتي والبرهان) عليهم، بعد أن استباحا البلاد، وأنهكاها طوال الأعوام الأربعة الماضية، أي في مرحلة ما بعد الثورة. وليس غريباً أن يحمل التشكيليّون السودانيون هذه الهموم، ويعكسوها بأعمالهم أينما حلّوا.
وفي هذا الإطار، تُمكن قراءة معرض يحمل عنوان "موسم الهجرة المرّة"، الذي افتُتح الخميس الماضي في "غاليري برّاق نعماني" ببيروت، ويوقّع لوحاته التشكيلي السوداني راشد دياب (1957) في أوّل معرض له بالعاصمة اللبنانية.
يتكوّن المعرض، المستمرّ حتى نهاية حزيران/ يونيو الجاري، من خمس وعشرين لوحة، من عناوينها: "خروج 2"، و"لا شيء يُقال"، و"خارج الحدود"، و"مناقشات"، و"نهاية حزينة"، و"لا يستحقّ شيئاً". وفيها استعادةٌ لثيمات سبق له أن استحضرها: كالمرأة والصحراء والمسافات، التي تُحيل بشكلٍ أو بآخر إلى طبيعة السودان بالمعنى المُركَّب، لا الجغرافي فحسب.
ومن خلال هذه المُحدّدات الثلاثة، يُمكنُ للمتلقّين أن يقرأوا معه واقع بلاد لا تتماسك سياسياً واجتماعياً حتى تعاود التشظّي من جديد. علاوةً على ذلك، فإنّ هذه اللوحات أوّل ردّ فعل تشكيليّ على الاقتتال المسلّح الذي تفجّر في شوارع الخرطوم صبيحة الرابع عشر من نيسان/ إبريل الماضي.
لا وجوه في لوحات المعرض ولا حتى أجساد واضحة البُنية والمعالم
أمّا الإطار الضامّ لهذه المُحدِّدات فهو اللون، أو بالأحرى قوّته، وهذا ما يُميز تجربة دياب الطويلة، التي يبدو فيها اللون كعنصر قوّة مهما أخذتنا تفاصيل اللوحة الأُخرى نحو تصوير الحالة العامّة، أو الفئات الأكثر هشاشة في المجتمع. ففي الوقت الذي تحاول فيه النساء الخروج من سِفر الحرب، بعضهنّ يعبر الصحراء، وأُخريات مُلتفعات بالثوب التقليدي، على طريق ليست ذات وجهة، يتكفّل اللون بتوسيع المشهد، حيث يؤسّس لانفتاح أكبر على تقنية تعبيرية تستلف من الانطباعية مقداراً، ولو طفيفاً.
لا وجوه في "موسم الهجرة المرّة"، ولا حتى أجساد واضحة البُنية والمعالم، إنما ظلالٌ/ ألوان تسعى في خطوط لم تتّضح بعد. هي مجرّد محاولات لشقِّ الطريق وحسب؛ إذ لا وقت -في غفلة الحرب- لأن تبرز القَسَماتُ الدقيقة. وهذا يُقاطع بين حالة الناس الذين تفاجأوا بمداهمة الحرب التي لم يتحسّبوا لها، والتقاطة التشكيلي للحدث والتعبير عنه في لوحات توزّعت خاماتُها بين الأكريليك أو الزيت على قماش فقط، فيما راوحت حجومها بين الصغيرة والمتوسّطة.
الجدير بالذِّكر أنّ دياب تخرّج من "كلية الفنون الجميلة والتطبيقية" بالخرطوم (1978)، قبل أن يُتابع دراساته في "جامعة كمبلوتنسي" بمدريد، وقد درّس فلسفة الفنون فيها طوال سنوات، ثم عاد بعدها إلى بلاده وأسّس "مركز راشد دياب للفنون" عام 2006، وفي رصيده أكثر من عشرين معرضاً فردياً حول العالَم.