صحيح أن المركزية التي كانت تمارسها بيروت والقاهرة قد خفتت ضمن الثقافة العربية، منذ عقدين على الأقل، لكن ذلك لم يمنع من بقاء عدّة بلدان مهمّشة، ومنها موريتانيا. لعل جعلها ضيف شرف خلال الدورة الجديدة من "معرض تونس الدولي للكتاب" التي انطلقت أوّل أمس يرفع بعضاً من هذا الضيم.
في افتتاح أنشطة جناح ضيف الشرف، أقيمت أمس ثلاث محاضرات. كان أوّلها للباحث سيد أحمد أطوير الجنة وتحدّث خلالها عن المخطوطات بالمكتبات الموريتانية. يشير الباحث إلى أن المَحاضر تمثّل الحاضنة الأساسية للمخطوطات. والمحضرة هي مدرسة تقليدية للتعليم يتلقى فيها الطالب شتى أنواع المعرفة والفقه ويتولى التدريس بها شيوخ العلم. وكانت أول محضرة قد تأسّست في موريتانيا على يد عبد الله بن ياسين الذي عاش في القرن الحادي عشر ميلادي، وهو داعية من زعماء الإصلاح الاسلامي. وقد كانت المحاضر منتشرة في مختلف أنحاء موريتانيا وخاصة في ما يسمى ببلاد شنقيط.
واستعرض أطوير الجنة أقدم المخطوطات الموجودة في مكتبات شنقيط فذكر على سبيل المثال "الوجيز" للغزالي وشرح كتاب الهداية وبهجة النفوس وصحيح مسلم وتهذيب الهدى وهي نصوص معروفة ومشهورة بين العلماء والمختصين في دراسة المخطوطات وتحقيقها.
المحاضرة الثانية كانت بعنوان "طريق الحبر بين القيروان وشنقيط" وتحدّث خلالها الباحث الخليل النحوي، وقد ذكر بأن مدينة صنهاجة كانت حلقة الربط بين تونس والمغرب وموريتانيا، واضطلعت بدور في ما ستكون عليه مستقبلاً "قوافل الحبر"، مشيراً إلى أن جذور بعض سكان الجنوب التونسي تعود إلى العمق الصحراوي بسبب هذه القوافل.
دعوة لتنشيط طريق الحبر ورصد الحركة الثقافية بين البلدين
يرى النحوي أن الرحلات تعتبر من العناصر المهمة في رسم طريق الحبر وأول رحلة مهمة وفقه قام بها عقبة ابن نافع، فاتح شمال أفريقيا ومؤسس مدينة القيروان، والذي وصل إلى بلاد السوس على مشارف موريتانيا. كما يذكر رحلة عبد الله ابن الحبحاب لشق طريق في الصحراء، ورحلة الأمير الصنهاجي يحيى بن إبراهيم التي عاصرت بداية نشأة الدولة المرابطية، وكان قد نزل في رحلته بالقيروان.
واستعرض المتحدث الرحلات الحديثة في "طريق الحبر" ومن بينها رحلة الشيخ أحمد أطوير الجنة (جدّ صاحب المحاضرة الأولى)، ورحلة محمد يحيى الملاتي، الذي ترك شرحه لصحيح البخاري في تونس، وكذلك رحلة محمد محمود الشنقيطي. وفي ختام حديثه نادى النحوي ببعث مرصد معاصر لطريق الحبر يرصد الحركة الثقافية بين البلدين وكل ما يصدر من كتب ودراسات وبحوث تنخرط في هذا الإطار.
المحاضرة الثالثة كانت للباحث أحمد الهلالي مولود، أستاذ التاريخ والحضارة بالجامعة الموريتانية والذي درّس بتونس وقد عدّد بدوره أوجه التماثل بين التراثين التونسي والموريتاني. يرصد مولود هذا التماثل في لهجة جزء من التونسيين، فعدة جهات وخاصة بالجنوب التونسي تستعمل كلمات وجمل شبيهة بما هو مستعمل في موريتانيا. ويرصد التماثل في الألعاب الشعبية منها لعبة الخربقة التي تحمل اسماً قريباً في موريتانيا (الخريبقة).
كما أشار إلى وجود لقى قرطاجية في موريتانيا يرجّح أنها من أثر الملاح القرطاجي حنون، والذي طاف سواحل أفريقيا، وتوجد قطع من العصور الإسلامية وجد المحاضر مثيلاتها في متحف رقادة بالقيروان.