موجةٌ اسمها الهايكو

21 يونيو 2021
جزء من "الموجة الكبيرة في كاناغاوا" لـ هوكوساي (1830 تقريباً)
+ الخط -

هذه القصيدة اليابانية التي يُقبل على كتابة صيغةٍ عربيةٍ لها في هذه الأيام عددٌ متزايد من الشعراء والهواة العرب، وتتشكّل لها منتدياتٌ، وتُقام مؤتمراتٌ، لم تعد مجرّد نزوةٍ عابرة، أو غيمةَ صيف في السماوات العربية، بل تحوّلت إلى حديثِ مئات الكتّاب والشعراء، بين ممجّدٍ لها، أوباحثٍ في أصولها، أو مترجمٍ لها من لغات أخرى، أومنتقدٍ، أو مستخفٍّ بها، أو ساخرٍ منها وممن يكتبها. حتّى ليحسبها الإنسانُ موجةً بين موجات الشعر العربي المستجدّة، تعلو حيناً وتهدأ أو تتموّج وتتنقل بين هذه العاصمة أو تلك. شأنها في ذلك شأن قصيدة التفعيلة التي غلبت عليها تسمية الشعر الحرّ، وقصيدة النثر التي استقرّت في اسمها هذا منذ زمن، من دون أن ننسى بالطبع قصيدة الأبيات المقفّاة المسمّاة القصيدة العمودية، والمستقرّة في هذه التسمية منذ أزمانٍ سحيقة، الماثلة في الخلفية، والتي لا يُعرف الشعرُ العربي إلّا بها لدى الغالبية المتعلّمة وغير المتعلّمة على حدّ سواء.

لم تستقر قصيدة الهايكو في تسميةٍ عربيةٍ لها حتى الآن، رغم أن بعضهم جرّدها من يابانيّتها وألبسها ثوبَ ما يُسمّى عندنا "بيت القصيد" أو ما تُسمّى قصيدة "الومضة" أو "التوقيعة" المعروفة إلى حدّ ما في الشعر العربي، بعد أن جرّدها من طريقة وتَقانة صناعتها اليابانية المتميّزة، بمقاطعها السبعة عشر، وسطورها الثلاثة، وتركيزها اللحظي على مشهد واحد يرسم الشاعرُ عناصرَه الثلاثة بلمسات تشكيلية مرهفة: الزمان والمكان والموضوع، كأنّه يجيب على أسئلة ثلاثة هي: أين كان المشهد؟ ومتى كان؟ وما هو؟ ولكنْ من الملحوظ أن قصيدة الهايكو انتقلتْ منذ وقت قريب ــ وباسمها هذا الذي يصرّ بعض شعرائها على الحفاظ عليه ــ من وسائل التواصل الاجتماعي التي كان لها الدور الأكبر في انتشارها، إلى مقاعد الدراسات العليا في عدد من الجامعات العربية.

قبل ذلك، صدرت بضعة كتب مترجمة عن الإنكليزية على الأغلب، وعن اليابانية أيضاً، ولكن الأقل عدداً، تعرِّفُ بطرائقها وتقاناتها وبشعرائها المشهورين، قدماء ومحدثين. واتخذتها ملتقياتٌ في عدة عواصم عربية موضوعاً لها، قراءة ونقداً وتأليفَ مختاراتٍ تحمل اسمها مباشرةً بلا تردّد، يجمع فيها أصحابها ما يُطرح من أبحاث ويُقرأ من قصائد.

يترك شاعر الهايكو مساحةً للصمت أكثر ممّا يترك للكلمات

هذه الحصيلة، مع ما تنشره مواقع على شبكة الإنترنت تحمل أسماء مثل "الهايكو العربي"، أو "نبض الهايكو"، أو "بيت الهايكو"، أو "النادي الدولي" وما إلى ذلك، أصبحت مادّةً بحثية يدرسها ويكتب مقالات عنها بعض أساتذة جامعات، مثل بشرى البستاني (من العراق) التي أولت هذه القصيدة اهتماماً ملحوظاً في عدّة أبحاث، منها "الهايكو العربي بين البنية والرؤى"، و"الهايكو العربي وقضية التشكيل". ويصدر بعض هذه الاشتغالات في كتب، مثل كتاب "خطاب الأنساق: الشعر العربي في مطلع الألفية الثالثة" (2014) للجزائرية آمنة بلعلي. ويكتب شعراء مثل عبد الكريم كاصد (العراق) ومحمود الرجبي (الأردن) وحسني التهامي (مصر) وعبد القادر الجموسي (من المغرب) قصائد ودراسات معنيّة بهذه القصيدة. وتعكف الآن الباحثة آمل بولحمام (الجزائر) على إعداد رسالة جامعية عنها وعما صدر منها لشعراء عرب.

بدأ يتردّد اسم الهايكو في المجلّات والصحف العربية منذ أواسط ثمانينيات القرن الماضي. ومع صدور مجموعات شعرية لشعراء يابانيين مترجمة إلى اللغة العربية، ونشر محاولات أولى يدرجها أصحابها تحت هذا الاسم، مثل محاولة مبكّرة لشاكر مطلق في مجلة "الآداب الأجنبية" السورية (1983)، بدأت الهايكو تلفت النظر، حتى أن بعض الشعراء سارع إلى وضع نفسه في مرتبة الرائد لهذه الجوهرة الشعرية الوافدة، بأن أعاد نشر ما زعم أنّها أول "هايكو" كُتبت في اللغة العربية، مع أنها لم تكن سوى تلك القصيدة المسمّاة في التراث الشعري العربي بقصيدة "التوقيعة"، كما لو أنه يعيد اكتشاف نفسه في ضوء هذا الشكل الجديد. وانتبه بعضٌ آخر إلى تأثّر شعراء ما يُدعى في الشعر الإنكليزي "المدرسة التصويرية" ــ المجدّدة في أوائل القرن الماضي، والأبرز بين أتباعها، كما هو معروف، إزرا باوند، وآمي لويل، وهيلدا دوليتل ــ بالشعر الشرقي، والياباني منه بخاصة، ونمط الهايكو تحديداً، وبدأ يرجع إليهم، ويترجم بياناتهم الشعرية.

على أنّ كل هذا التراث الحديث، مع أنه غزير نسبياً في الثقافة العربية، لم يجد رواجاً على نطاق واسع يكافئه في الأوساط الثقافية والشعبية العربية. والسبب الجوهري، كما يرى الشاعر حسني التهامي ــ وهو محقّ في هذا ــ يعود إلى أنّ ذائقة المتلقّي العربي مشبعة بالشعر بوصفه تغنّياً بالذات ومن الذات، وليس موقفاً محايداً أمام مشهد تتنحّى فيه الذات عن مشهد العالم فيها ومن حولها كما يرى شاعر الهايكو ذو المنزع الصوفي التأمّلي في المقام الأول. يُضاف إلى هذا، أن الوعي بطرائق كتابة الهايكو وتقاناتها الغريبة عن طرائق وتقانات القصيدة العربية لم يجد حتّى الآن طريقه إلى نقّادها والباحثين فيها، وحتى غالبية شعرائها، ويكاد تناولها يقتصرعلى إشاراتٍ وملتقطاتٍ من مسافة بعيدة. كأن هؤلاء، حتى المتحمّسين منهم، ينظرون ويصغون من على شاطئ بحر شعرهم العربي إلى موجة تُسمّى هايكو، تقترب منه وتكاد تلمسه هنا وهناك، ثم ترتدّ عنه من دون أن تمتزج بمياهه.

الذائقة العربية المرتبطة بالذات تحول دون تذوّق الهايكو

والسبب أيضاً هو العجز ــ الذي يكاد يشترك فيه الجميع حتى الآن ــ عن تبرير جماليات تبدو غريبة على الذائقة الموروثة؛ جماليات أساسُها إجمالاً تنحّي الذات، والإحساس الصوفيّ بالوجود، أي الإحساس بوحدة الوجود، وما يتبع هذا التنحّي من رفض لتقانات عزيزة على الذائقة العربية، مثل التشبيه والمجاز وأنسنة ظواهر الطبيعة، وتجريد المجسّد وتجسيد المجرّد، والثنائية التي تطبع بطوابعها الثقافة العربية الشائعة التي أقصت الوحدة بين النقائض ذات المنشأ الصوفي، وأحلّت معها الأنا في مواجهة العالم، والأرضي في مواجهة السماوي، والذكر في مواجهة الأنثى... وهكذا.

ولكنّ تصفُّح بعض الدراسات الغربية المتعمّقة أكثر في دراسة الثقافة الشرقية، واليابانية منها على وجه الخصوص، يدلّ على وعي متقدّم بجماليات الهايكو. يساعد على ذلك بالطبع تقدُّم دراسة علم المعاني والعلامات (السيميولوجيا) في الغرب. ويحضر في الذهن كتابٌ في غاية الأهمّية في هذا المضمار للناقد الفرنسي رولان بارت (1915 ــ 1980) حمل عنوان "إمبراطورية العلامات". وفيه ــ كما نعتقد ــ تفسيرٌ عالِمٌ لتنحّي الذات في ثقافة كهذه أنتجت الهايكو.

أساس هذا التفسير أن الذات الإنسانية ليست هي التي تمنح العالم معانيه ودلالاته، بل تشير بلغة إشاراتها إلى الوجود المحض، وتترك لهذا الوجود مهمّة أن يرسل علاماته ومعانيه. ويفسّر هذا الإحساس الذي يتولّى قارئ الهايكو بأن الشاعر يترك مساحةً للصمت أكثر ممّا يترك للكلمات، وكأنه يسعى، بتقانة الرسم التشكيلي، الأبرز بين خصائص الهايكو، إلى إنتاج قصيدة بلا كلمات، توحي ولا تقول. ولعلّ أفضل مُعبّر عن جوهر الهايكو ما جاء به الشاعر الصيني لوتشي حين قال، حسب ترجمة الشاعر الأميركي أرشيبالد ماكليش (1892 ــ 1982): "نحن الشعراء نصارع الوجود لنُجبره على أن يمنح وجوداً، ونقرع الصمت لتُجيبنا الموسيقى". ومعنى هذا، كما يقول ماكليش، أن "الوجود الذي تشتمل عليه القصيدة مستمدٌّ من اللاوجود، لا من الشاعر، والموسيقى التي يجب أن تحتويها القصيدة لا تنبثق عنّا، نحن الذين نصنع القصيدة، بل عن الصمت، وتنطلق ردّاً على قرعِنا".


* شاعر وروائي وناقد من فلسطين

المساهمون