"موائد الأجداد".. مخطوطاتٌ تحكي عن أطباق عربية

18 ابريل 2023
مشهد لإعداد الطعام في منمنمة تعود إلى القرن السادس عشر (Getty)
+ الخط -

الحديث عن مؤلَّفات التراث العربي التي تناولَت موضوع الطعام، وفصّلت القول فيه، قد لا يكون جديداً تمام الجدّة عند جمهور عامّ؛ ولكن كم يمكن لهذه المعرفة أن تكون مُضاءة ومعروفة أو محدّدة؟ فسوى مؤلّفٍ أو اثنين عنوانهما "الطبيخ"، أو شخصية كابن سيّار الورّاق (توفّي عام 940م)، مَن هي الأسماء الأُخرى التي يمكنُ أن نعرفها؟ وفي سياقٍ آخر، أكثر ذاتيّة، ألا يُحيل تفكيرُنا اليومي بالوجبة التي نتناولها إلى أسئلة مُرتبطة بالمعاش والأذواق، وبالبيئة والسلوكيات والمنتَجات؟ أليس كلُّ ما سبق من عناصر الثقافة الأساسية أيضاً؟ وبالتالي فإنّ الالتفات إليها ليس شيئاً ثانوياً على الإطلاق.

"موائد الأجداد" شريطٌ رمضانيّ من ستّ حلقات بثّته شاشة "الجزيرة الوثائقية" مؤخّراً، واشترك في تقديمه كلٌّ من الباحث المصري المظفّر قطز تاج الدين، والطاهي الفلسطيني فادي قطّان. لا يمكنُ وصف هذه السداسية بأنها برنامجٌ "عن الطبخ" وَجد لنفسه فرصةً في شهر الصيام فحسب، بل هو تجربة بحثية اجتمع فيها الارتحال خلف مخطوطات الطبيخ في التراث العربي، والموجودة اليوم في مكتبات الحواضر الأوروبية؛ وسردٌ عميق ولقاءات مع باحثين وأمناء خِزانات كتب، إلى جانب مُساءلة لما يَحفُّ بحياتنا اليومية كشباب عربيّ يعيش تجارب الاغتراب واللجوء والمنفى.

أثمن مخطوطات التراث العربي حول الطبخ موجودةٌ في مكتبات أوروبا

تتألّف الحلقة الواحدة من عدّة طبقات في الخِطاب، فهي لا تبدأ بعرض المحتوى العِلمي مباشرة، بل يتكفّل بالافتتاح حوارٌ هاتفي قائم بين شابٍّ مصري مُغترِب في بروكسل، هو المعدّ والمُقدّم تاج الدين، وأمّه في مصر. أمّا مضمون هذا الحديث فقد جرّبه أغلبنا، ويتمثّل بالبَدء بما تُظهره الأمّهات من حِرْصٍ على ما يتناوله الأبناء البعيدون، قبل أن ينتقلن إلى التذكير بمهاراتهنّ في الطبخ والاعتداد بالنفَس (بفتح الفاء)، قبل أن يأتي دور الابن في الردّ والطمأنة بأنّه بدأ يُعدّ طبق "زيرباجة السفرجل"، وفي الوقت الذي يبدأ فعلُ الطبخ، يبدأ معه فعلٌ آخر مُحايثٌ له، هو فعلُ البحث في أصل الكِتاب أو المخطوطة الضامّة لهذه الطبخة، وبهذا يؤطّر فهمٌ أنثربولوجي عام حلقات البرنامج.

ومن فويرقات وصفات الطعام بين إسحاق بن إبراهيم الموصلي (الشعبية والتقليدية) وإبراهيم بن المهدي (العصرية النخبوية)، نمُرّ على الموسيقي الشهير زرياب (789 - 857م) ودوره في إدخال "التفايا الخضراء" إلى المطبخ الأندلسي، هذا المطبخ الذي يُفصّل فيه البرنامج من خلال شخصية ابن زريق التجيبي، صاحب "فضالة الخوان في طيّبات الطعام والألوان"، والذي يستلُّ منه المُقدّم وصفات مثل "ثريدة المثوّمة"، و"إسفنج القلّة"، و"المركّبة".

كذلك يحضر مؤلَّفٌ مملوكي لكاتب مجهول، بعنوان "كنز الفوائد في تنويع الموائد"، وفيه يذهب الوثائقي للحديث عن الخلفية التجارية التي صنعت المطبخ المصري، ودور "الكارمية" (نمطٌ من الوسطاء التجاريّين ظهر في العصر المملوكي) الذين سهّلوا انتقال الأموال على طول سواحل البحر الأحمر ومنه إلى الهند والصين، وما لعبته هذه الوساطة من انفتاح على "مذاقات" جديدة، قبل أن يُسيطر البرتغاليون على تلك الطرق، ويذوي ذلك الدور التجاري. 

كما جاء الوثائقي على مسألة التصنيف المكتبي الحديث لمؤلّفات الطبخ، فكتاب مثل "الوصلة إلى الحبيب في وصف الطيّبات والطيب" لابن العديم (1192 ـ 1262م)، عندما وصلت إحدى مخطوطاته إلى "مكتبة غوتا" الألمانية، في القرن التاسع عشر، فُصِلت على ضوء الفهرسة الجديدة، عن جزء من مخطوط أكبر، فلم تعُد داخلة في مجال الصيدلة والطبّ، كما هي في الأصل. بكلمة أخيرة، يبقى أفضل ما في الوثائقي، تلك الإشارة إلى تحرير فهمنا للطبخ ممارسةً وسلوكاً، وإنتاجاً معرفياً.

المساهمون