إجماعٌ على واجب المقاوَمة الثقافية. هذا ما ذهبت إليه أفكار مثقّفين عرب استطلعت "العربي الجديد" آراءهم حول ما يُمكن للثقافة العربية أن تُقدّمه لخدمة قضاياها، وفي طليعتها قضية تحرير الأرض والإنسان التي تدور رحاها الآن في فلسطين معمّدة بدم أبنائها.
في مثل هذه الأوقات الكارثية، يتنامى الإحساس بالضآلة أمام عنف ما يحدث، وأمام صمت الجماعة الإنسانية الكبيرة التي ننتمي إليها جميعاً. ينسحب الكلام، على صدقه، إلى غرفة الأصوات المعزولة، المنطقة التي تكتم فيها الأصوات وردود الفعل، داخلنا وداخل ثقافتنا أيضاً. في هذه الغرفة الرمزية تتآزر مكبوتاتنا النفسية، كأفراد وكثقافة، وتكون ستاراً يحجب النظر بوضوح لأنفسنا، كأفراد وكثقافة.
الكوارث تُعيد طرح الأسئلة القديمة والصحيحة التي أتت من موقع الذات المجرَّدة في مواجهتها مع الآخر، وأهمّية هذه الكوارث، على مأساويتها، أنّها تُعيد طرح العلاقة مع الذات ومع الآخر معاً، كونه جزءاً من الذات، ومختلفاً عنها في آن.
من داخل هذه الغرفة، أكتب وأنظر إلى الخارج، كمثقّف مصري أو عربي أو فلسطيني، أحاول أن أتجاوز عزلتي الاضطرارية، وعزلة ثقافتنا المختارة. لا أرى أي حلول مؤقَّتة لمعالجة الكارثة، كلُّها حلول طويلة الأمد، وأهمُّها وأكثرها عمقاً وغوراً في النفس: ردّ الاعتبار إلى هذه الثقافة التي ننتمي إليها، ليس بالتعالي أمام أيّ ثقافة أُخرى، ولكن ربما نحتاج إلى تجاوُز أيّ سقف يؤكّد "دونيّتنا"، وتجاوُز أيّ نظرة تدفعنا إلى إنتاج وتثبيت هذه الصور.
بحاجة إلى وعي نقدي منفتح على حركة الحياة وتحوّلاتها
أعتقد أنّ هذا التجاوز يُمكن أن يتمّ بفحص هذا المكبوت الرمزي، واللغوي، والنفسي، والديني، الكامن في غرفة الأصوات المعزولة، للوصول إلى نقطة نفسية جديدة، وصورة عن الذات فيها نوع من الاتساق والتصالح والعافية، وتضييق الفراغات داخلها، وبينها وبين الخارج، ربما تكون بداية للتساوي مع المستقبل وما يحمله.
بالإضافة، طبعاً، لاستعادة الأرض والمكان/ الوطن، الذي تتمّ فيه رحلة الاستعادة بالنسبة إلى الفرد والجماعة الفلسطينية، وهي النقطة الجوهرية التي سيبنى عليها.
ربّما لن يتولّد هذا التجاوز إلّا بوعي نقدي منفتح على حركة الشارع والحياة وتحوّلاتها، ومحاولة وضع ولو حدّ أدنى من مقوّمات تنوير عربي، بعيداً من خطوات التنوير السياسي القديم الذي فشل، وأوّلها ألّا تكون الثقافة تابعة للمشروع الأخلاقي السياسي، وطموحه، بل الانفتاح على كلّ قضايا الوجود من دون تفضيل، وتشجيع هذا الانفتاح، سواء بشكل مؤسَّسي، أو كطموح شخصي من أفرادها.
هذا الوعي النقدي لن يتأكّد بشكل فردي، لكنّ هناك دوراً للمثقف العضوي، بالنظر بتعاطف إلى مجتمعاتنا الداخلية التي نعيش فيها، وأن نُنمّي فيها ما تعلّمناه من قيم الحوار والتعدّد، وأن نكسر جدار النخبوية ومسبّباتها الرأسمالية وأعراضها الجانبية من انعزال ودونية/ تعال.
أهمّية حضور جمهور حقيقي، للمثقَّف، بيننا وبينه مشترك إنساني ورمزي، يُمكن البناء عليه. بمعنى آخر، أهمّية أن يكون لكل منا آخر قريب من حوله، يتبادل معه الحوار ونقاشات الحياة، ولا نتعالى على أي إنسان/ جماعة، لأنّ الثقافة، على تعقيدها، تقوم على حساب المشاعر، واتجاه حركتها وعدالة مسعاها، حتى ولو اضطررنا إلى تغيير بوصلة الذات.
أيضاً الدفاع عن مفهوم الحياة وحكمتها، ليس في الأدب فقط، بل في كل ما يقف ضدّها. فعوامل ضعف أو دونية أيّ ثقافة، أمام ثقافات أُخرى، كما يقول تودوروف؛ كامن في هيراركيتها (تراتبيتها)، والفوارق الطبقية بين أعضائها، وتحلُّل مصادر قوّتها مع الوقت.
لقد تحوّل اختلافنا عن الآخر إلى سلاح ضدّ أنفسنا، ولم يتحوّل إلى نوع من التعدُّد. من المهمّ أن نَخرج من سباق الثقافات، أو صراعها، وليس بالضرورة أن نقيس أنفسنا على مقياس ثقافة أُخرى، وليس من الضرورة أيضاً أن يكون لنا سؤال جذري كالثقافة الغربية، لكلّ ثقافة جذريتها، وتابوهاتها.
كل هذه الإزاحات السابقة ربما تُفضي إلى مسار جديد ومختلف للثقافة، وللذات، ومن هذا الاختلاف يُمكن بناء وعي نقدي جديد من دون حروب أو حساسيات، بمثابة لحظة تنوير مختلفة سيكون لها "آخر كوني" يعيش نفس ما نعيشه وأزمته مشابهة لأزمتنا، وليس "الآخر القديم" الذي لم يُقدّر اختلافنا، وقام باستغلال ضعفنا أو "دونيّتنا".
ربما هناك أفكار متناقضة أتناولها في هذا النص الصغير، ولكن أرى أنّ هذا التناقض له وجه آخر حيوي، أنه يحمل تاريخاً للأفكار وتحوّلاتها وما يُؤثّر منها على الذات، ويبني لها مواقفها واختياراتها. تلك الذات الكلّية، أو ذاكرتنا الجماعية الحيّة، التي تحاول أن تصفّي تناقضاتها عبر صدامها، وعبر دخولها في سياق جماعي يستبعد ويقرّب ويصنع من التناقض حلولاً، أو مداخل جديدة، والأهمّ أن يكون هناك مداخل نرى بها المستقبل الغائب عن حياتنا وربما عن حياة العالم في تلك اللحظة الكارثية.
* شاعر وكاتب من مصر
هذه المادّة جزءٌ من ملفّ تنشره "العربي الجديد" بعنوان: "الثقافة العربية واختبار فلسطين... ما العمل؟".
لقراءة الجزء الثاني من الملفّ: اضغط هنا