ربّما تكمن إجابة هذا السؤال في صلب تعريف الثقافة، التي تعني تلك المعرفة المُكتسبة عبر الوقت، وما تتضمّنه من عمليات النشر والتبادل المعلوماتي ومحاربة التثاقف الذي يؤدّي إلى تشوّه وفقدان للثقافة الأصلية لصالح ثقافة مُستجلبة، تستبدلها؛ وربّما تكمن في السؤال المعاكس: ماذا فعلت المقاومة والقضية الفلسطينية للثقافة العربية والعالمية، أي مكتسبات؟
1. امتلاك القدرة على نقل السلطة وإنتاجها، وبالتالي على فرضها وإضعافها، وإبطال فاعليتها، وبالتالي تغيير الوعي.
2. سقوط السرديات والثقافات المعقّمة أمام وضوح واتّساع الدم الفلسطيني وبلاغة الجسد المقاوم وصناعته الحدث، رغم الحرب الشرسة على المحتوى الفلسطيني والمؤيّد لفلسطين.
3. السقوط المدوّي للأقنعة ولكتابة التاريخ بفوّهة البندقية الاحتلاليّة، ليس فقط رقميّاً، بل وعلى الأرض، وحيث انتقلت "لا" الدم الفلسطيني من بلاغة الجسد المقاوم إلى بلاغة الجسد الاحتجاجي عبر العالم.
4. كشفت عن حاجة مُنتجي الثقافة المعقّمة في المؤسّسات الاحتلالية والمُنحازة -إعلامياً ورقمياً وبحثيّاً ودبلوماسياً وشعرياً وروائياً وفي مناهج التعليم- ويضاف إليها ضعف وخوف وتخشّب في البنى السياسية والمؤسساتية التابعة في العالم العربي وحول العالم، إلى عشرات السنوات كي تبطل أثر ما أحدثه "طوفان الأقصى" على الوعي بالقضية الفلسطينية في كلّ مكان.
5. تشكّل هذه الثقافة المنتَجة والكاشفة، حالة بحثٍ مشروع في ثالوث الحقيقة والسلطة والأخلاق، والتي يشكّل البحث فيها أيضاً تقويضاً لمشاريع وبُنى كبرى، تشتغل في بُعدها الأساس ليس على التنوير الذاتيّ، بل على قمع الجسد الاحتجاجي.
هيمنة تضليلية وكاذبة تمارسها ترسانة إعلامية ورقمية
6. بهذا -العالم- الذي أدرك أنَّه مُضلّل ومُتلاعب به ومُحتلّ فعليّاً على يد ثقافة أُحادية مبنيّة على رواية واحدة ساذجة وإقصائية وغيبية ولاهوتية واستعمارية اقتصادية، ربطت نفسها بنقطة ما في التاريخ، وجعلت العالم يدور معها حولها - يستعيد وعيه أوّلاً من خلال الاعتراف: "لقد جعلونا فلسطينيين في أوطاننا" يقول إيريك مونتانا، والذي تمثّل رسالته المنشورة عبر "تليغرام"، إذ يرفض "فيسبوك" السماح بنشرها، دلائل على مُنعطف ثقافي جديد مواجِه ومحرج، لكنه جماعي كالطوفان تماماً؛ كما يكتشف قدرته ثانياً على أن يقول "لا"، رغم الخسارات الشخصية والتحريض والتنمّر.
7. أنَّ الـ"لا" العالمية لا تشكّل فقط رفضاً للإبادة الجماعية لشعب مقاوم في ظلّ هيمنة تضليلية وكاذبة تمارسها ترسانة إعلامية ورقمية وسياسية ومؤسساتية تنتج سرديات مزوّرة، بل رفضاً للتحكّم بشعوب العالم وتحويلهم إلى صامتين ببُعد واحد.
8. أنَّ طريقتها في "التنظيف" تخلق الثقافة الضرورية للخروج من النفق. ثمّة حقل دلالي كامل في ما يحدث يحيل إلى هذا المعنى. لقد أدخل "طوفان الأقصى" الجميع إلى الإطار؛ إنّها بلاغة الظهور مقابل القبح والسلطة وادّعاء الحقيقة من خلال التطبيع العمومي والأحكام العسكرية والحرب، الضرورية دائماً لعلاج الفشل.
9. إثارة سؤال كسؤالكم هذا، وتحديداً حول:
- قوة المؤسّسات الثقافية العربية، وقدّرتها على حماية المثقّف، وتقديره بعيداً عن اشتراطات الاعتراف الغربي بالمثقّف العربي كتابعٍ وهامشي ومؤسرل، بل وعن سؤال الوعي الذي تمتلكه هذه المؤسّسات بدورها بعيداً عن صراع الدول على مكتسبات التمثيل والعشائرية الثقافية والعلاقات التي لا تنتج ثقافة بقدر إنتاجها -كما المؤسّسات الرسمية العربية- لعلاقات السلطة والمجتمع وبشكل مرآوي، وللهيمنة الثقافية والسياسية، أو لثقافة مُنتجة ضمن عولمة وصعلكة ثقافية ومصالح شخصية، واستعراض للفراغ والتفريغ.
اتّساع الدم الفلسطيني وبلاغة الجسد المقاوم وصناعته الحدث
- قوة الوعي الذي تمَّ العمل بإصرار على كيِّه عبر الزمن، في الإعلام والثقافة، وبما يعمل على تضييع إمكانياتهما الهائلة، ليس فقط كجبهة صدٍّ ضدّ عولمة الثقافة، وما تتميّز به من تلويث وتهجين.
- قدرة الثقافة العربية على التحرّك بين الواقع البشع على مسرح القتل الذي صنعته ثقافة الكُره والانتقام والقتل والاعتراف الأُحادي من الضعيف بالقوي، وبين الحاجة إلى المجاز كي نعبر بركة الدّم، وكي ننجو من الصناعة الثقافية التي فتحت مختبرات لتهجين البشر.
- فشل ثقافة التلقين والتكرار والعزل وحجب الجسد والتناسُخ الغيبي الذي أعاد إنتاج المقدّس والسلطوي في شكل أرضي من خلال أصحاب المقاولات العقائدية والسياسية وتوفيقية النصوص والأصول أيّاً كانوا.
- القدرة على الوقوف أمام عصور من الأيقنة السياسية.
10. بكلّ هذا، وكلّها أدوار ثقافية حقيقية، يصبح للمعرفة والحكاية ولقوة ما يحدث دور، تتحوّل بموجبه الثقافة إلى حارسة للرواية، وناقلة للسردية الوطنية خارج إملاءات الهيمنة وكي الوعي، وبعيداً عن المصالح والخوف والتتبع والتطبيع.
* شاعرة من فلسطين