-1- مثل ما قيل عن ميكافيلي أنه كان يكتب نصيحته ظاهريا للملوك، في حين إنه كان في الحقيقة يعطي دروساً للشعوب، كذلك يمكننا افتراض أن لكتاب محمد الحاج سالم عن الميسر، هو الآخر، ظاهراً وحقيقة. وذلك هو جانب مما تثيره قراءة كتاب: "من الميسر الجاهلي إلى الزكاة الإسلامية: قراءة إناسية في نشأة الدولة الإسلامية الأولى"، حيث ندرك عند قراءة مقدمة هذا الكتاب الضخم أن الدرس الفلسفي المعاصر "يعلمنا أنه ما من شأن سياسي في تاريخ الإنسانية إلا وهو مدموغ بطابع ديني وما من حدث سياسي إلّا ويحمل في أصله أو في هدفه أو خلال مساره فكرة دينية". هذا الإعلان يشي ابتداءً بأن المؤلف له رؤية ومنهجية خاصتان في معالجة انبثاق الانتظام السياسي الأول للمسلمين.
ولهذه المقاربة أكثر من معنى، فهي أولا، دالة على حتمية تجاوز المنهج الشمولي التجريدي الذي يتعاطى مع الظاهرة التاريخية في كليتها وضمن إطار نظري جامع مُعرض عن الواقع الاجتماعي بمؤسساته وآلياته.
وبذلك يكون المسعى الإناسي الراصد للبُنى والمؤسسات العربية القديمة في حراكها وغاياتها الاجتماعية-السياسية، وما واكبها من تصورات واعتقادات وطقوس هو الأقدر على فهم ما وقع فعلا في لحظة مفصلية مؤسسة من التاريخ العربي.
من جهة أخرى، فإن المقاربة الإناسية لمسار جزئي خاص بالميسر وما قام به الإسلام من تحريم له، تساهم بصورة نوعية في رفع جزء هام من الغموض المتصل بمعنى الميسر والزكاة وأثرهما في تكوين الدولة الإسلامية الأولى. ذلك أن إدراك طبيعة الميسر الدينية والاجتماعية والسياسية يتيح الكشف عن جانب من الآليات والمسالك التي اتخذتها حركة الواقع والتي يسّرت التحوّل من الوضع "الجاهلي" إلى الانتظام "الإسلامي".
ما وراء هذا هو محاولة إسهام في الإجابة عن الحدث الإسلامي السياسي المؤسس: فهل كان من خلال نشوء الدين الجديد وأنه أدى إلى ازدواجية بين النظام القبلي ومنظومة الدولة الناشئة؟ أم أن الرسالة الدينية أحدثت تحولا جذريا للحياة الاجتماعية-السياسية بما أنهى النظام القبلي في أخص مقوماته وأرسى دولة قادها الرسول بنفسه؟ أم أن الأمر يعني شيئا آخر؟
-2- ينطلق كتاب محمد الحاج سالم في أبوابه الأولى من تحديد معنى الميسر والقمار ورفع الغموض المحيط بالأول ولما لحقه من تشويه باقترانه بالثاني. بحفريات شيقة وموثقة ينتقل بنا البحث عن طبيعة الميسر بسعي تحليلي للشعر الجاهلي والأمثال والقصص والمقارنات اللغوية لضبط الدلالات الخاصة بالاستقسام والأزلام والأنواء والأسواق ومجالس الخمر مع ما يقاربها خارج فضاء الجزيرة العربية عند الهنود الحمر وجزر المحيط الهادي. إلى هذا اهتم المؤلف بالجانب الديني القديم، آلهته ونجومه وأنصابه وذبائحه وما تحيل عليه من معتقدات ورموز وتصورات وما تعنيه من احتياجات اجتماعية واقتصادية وروحية، معززا ذلك بالتحرّي في وقائع تاريخية وما يرتبط بهذا النسيج من دلالات سياسية.
بهذه المقاربة ووفق نظرية الصيغة البنيوية في علم النفس الإدراكي، يتبدى لنا الميسر متجاوزا بصورة كاملة ونوعية ما أقرّه التعريف الفقهي المكتفي بظاهر التحريم والمراوح بين كونه قمارا أو ضرباً من "المغالبات التي يكون فيها عوضٌ من الطرفين".
قراءة الحاج سالم تعتبر أن الميسر استُهدِف قرآنيا تصديا لطقس وثني استسقائي، وممارسة اجتماعية تقوم على لعبة تنافسية ذات قواعد، تُنحر فيها الإبل المتراهن عليها في زمن القحط، لتقدم دماؤها إلى الآلهة، وتوزع لحومها على الفقراء حماية للقبيلة بما يحفظ كيانها ويقيها من كل عدوان خارجي.
ولمواصلة الحفر الاستقرائي، يتجه اهتمام الحاج سالم في الباب الثاني من كتابه بالأبعاد الدينية والاجتماعية التي تكشف أن الميسر الجاهلي نظامٌ كامل مركّب: "هو طقس ديني - سحري مرتبط زمنيا بغياب نجم "الثريا" يتطلب نحر الإبل استسقاء واسترضاء للقوى العلوية. هو في ذات الوقت وليمة جماعية تمليها كل مسغبة لإغاثة فقراء القبيلة إثباتا لمن تصحّ زعامته فيها.
لكنه أيضا تحطيم فائض الإنتاج في الإبل الذي لا تتمكن الجماعة من إعادة إدخاله وتوظيفه ضمن الدورة الإنتاجية بما يمثّل خطرا على كيانها الاجتماعي الرافض للفوارق الطبقية".
على هذا يضحي الميسر مؤسسة تضامن مجتمعي ذات أساس صابئي يتنافس فيه وجهاء القبيلة بلعب له ضوابط أرساها الأسلاف تكريسا للتلاحم العصبوي داخل القبيلة الواحدة، باسترضاء الآلهة وطلبا للغيث المحقق للخصب.
-3- في الباب الثالث يوغل الكتاب مع ما يحيل عليه موضوع الغيث والاستمطار من المنظور الإناسي للميسر من تمثلات قديمة للنسق المغلق الخاضع للآلهة ومقتضياتها المثالية مع ما فيه من حمولة جنسية رمزية. عندها يبرز ما ينطوي عليه الميسر من دلالات تجعله أحد طقوس الخصب عند العرب الغابرة بما له من جذور أسطورية يُستذكر فيه الزواج البدئي ومقتضياته في الخصب والازدياد.
يتوسع الحاج سالم في حقل مزدحم بالرموز الموصولة باعتقاد دهري بحيث تكون الآلهة صانعة للأحداث، ووفق منظومة التماثل الرمزي الدالة على أن ما يجري في السماء له أثر نظير في الأرض. هذا ما يستلزم عملا استرضائيا، عند كل خلل طارئ على الحياة، يرأب صدوع النسق المُختلّ. الميسر، بهذا، "ترياق" تتلاقى فيها فحول الإبل بالنوق في موسم ضرابها وتزاوجها متساوقة مع ما تماثله التفاصيل العملية والجزئية للعبة "الميسر" في أدواتها أو حركاتها أو نتائجها وأطرافها.
تتعيّن بؤرة هذا المشهد المكتظ عند هذا الطقس في محورية المرأة وصلتها بالقمر، آلهة الخصب، والدورة الشهرية والعود الأبدي للتقويم. هو تناضُحٌ للمضامين الدينية والتصورية والاحتياجات الواقعية مع ما ينجم عنها من فعل إخصابي يكون ذروةً لبانوراما مسرحة الجنس لدى العرب الدهريين.
في الباب الرابع للكتاب تتويج تركيبي لما وقع عرضه وتحليله في الأبواب الثلاثة السابقة إذ كل ما قُدِّم من تفاصيل كان تجسيدا لصيرورة الميسر سياسيا.
يستعيد الحاج سالم في ذلك مقولة الدرس الفلسفي الآنفة من "أنه ما من شأن سياسي في تاريخ الإنسانية إلا وهو مدموغ بطابع ديني"، والتي تمكّن من تفهّم دينامية المنظومة العربية القديمة في تكامل جوانبها العقدية والاجتماعية والرمزية وفي تلاحمها بالسياسي. إناسيا، البعد السياسي للميسر هو الكُلّ الذي تتكيّف وفقه بقية الأجزاء والأبعاد وهو الذي يكشف المنطق الثاوي وراء كل ما سبق تناوله. هو بذلك البعد الأقدر على تعقّل المجتمع القبلي الذي لا يقرّ إلا بسلطة الأجداد والرافض لظهور أي سلطة تهدد كيانه.
عندها يتعيّن البعد السياسي للميسر: هو أوالِيَّة وبنية نموذجية، وظيفتها وغايتها في الانتظام القبلي الحيلولةُ دون قيام "الدولة". ذلك تحديدا ما قصد الإسلام نقضه بتحريم الميسر لدلالته "اللَقَاحيّة" المكرسة لتفتّت المجتمع ولتعزيز القبليّة والمدمّر للثّروة منعا لبناء تكتلات اجتماعية- سياسية متعالية على القبيلة ومهددة لها.
-4- في ضوء ذلك يمكن فهم تحريم الميسر وغايته السياسية مع ضرورة استبدال النظام القديم بنظام الزكاة المنمّي للثروة المحقق للتضامن المجتمعي بالارتكاز على منظومة قيمية وثقافية الإنسان، لا الآلهة، هو صانع الحدث والفاعل في التاريخ.
تلك عناصر الأطروحة التي يشتغل عليها الحاج سالم في مسعاه الإناسي:
* لم تتجسد رسالة الإسلام واقعا تاريخيا إلا بتجاوز كامل النسق "الجاهلي"، عقديا واجتماعيا ورمزيا وخاصة سياسيا. بهذا يمكن تفسير هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة، حيث الاقتدار الفعلي على مواجهة كامل المنظومة "الجاهلية" بمنظومة بديلة متكاملة.
* لا قطع، في قراءة الحاج سالم للميسر، بين السلطة الدينية والسلطة السياسية. هذا التلازم ظل مستمرا بعد ذلك بصور ونِسَبٍ مختلفة من التمايز بين المجالين.
* نتيجة لذلك، تتحدد فرضية الحاج سالم الخاصة بتكوين الدولة الإسلامية الأولى في أن رسالة الإسلام أحدثت ثورة جذرية اجتماعيا وسياسيا بما أنهى النظام القبلي مقيما مكانه نظاما مغايرا بالكلية.
ما يستقر من كل فصول كتاب الحاج سالم هو الأهمية البالغة لعلم الإناسة السياسية خصوصا في إسهامه النوعي ضمن أي جهد معرفي نقدي وبنائي. أسلوبيا جاء عمله البحثي، أقرب إلى رسم المنمنمات، إذ تضافرت فقراتُه ومقاطعه وفصوله لتلتحم فيما يشبه صورا تشكيلية إيضاحية تكثّف وقائع تاريخية وتتمثل نصوصا وعقائد وتصورات ورموزا لتصوغ منها ترسيمةً حافزة على المراجعة والتسديد. بذلك يفيدنا الحاج سالم، "رسّام المنمنمات"، بأن الانثروبولوجيا لا تقتصر على متابعة الحركات الكبرى على السطح بقدر ما هي استقراء دقيق وجريء يلج تشعبات حقائق الواقع بما يمكّن من اكتشاف التشابكات المعقدة والمتحركة التي تبني فهماً عميقا وناظما لاختلاجات المجتمع وحراكه ودلالات كل مظاهر أدائه وإيقاعه.
لكن الكتاب، من ناحية ثانية ورغم انكبابه على الواقع العربي القديم وسعيه لفهم ما جرى آنذاك، يعبّر عن راهنية لا تكاد تخفى، هو وإن اشتغل بالحدث الإسلامي السياسي المؤسس فإنه بقي مشدودا إلى معضلة الدولة العربية المعاصرة يوحي بما يراه من موجهات بديلة لمصاعبها المتفاقمة.
مقتضى هذا الطرح اليوم يتطلب وعيا بأن علاقة الديني بالسياسي لدى المسلمين ذات طبيعة إشكالية، فليس لها حلٌّ ناجز ونهائي بل إنها علاقة قابلة للتجدد الدائم. ذلك يقتضي مغايرة الوعي المفوَّت وفكر القطيعة وإقرارا بالتمايز المتغيّر. عماد ذلك تعاطٍ علمي للـ"الإسلاميات التطبيقية" التي طالما دعا إليها محمد أركون، وفي هذا يُعتبر كتاب "من الميسر الجاهلي" نموذجا جيدا لمجال منشود وواعد.
(كاتب وأكاديمي تونسي)
ولهذه المقاربة أكثر من معنى، فهي أولا، دالة على حتمية تجاوز المنهج الشمولي التجريدي الذي يتعاطى مع الظاهرة التاريخية في كليتها وضمن إطار نظري جامع مُعرض عن الواقع الاجتماعي بمؤسساته وآلياته.
وبذلك يكون المسعى الإناسي الراصد للبُنى والمؤسسات العربية القديمة في حراكها وغاياتها الاجتماعية-السياسية، وما واكبها من تصورات واعتقادات وطقوس هو الأقدر على فهم ما وقع فعلا في لحظة مفصلية مؤسسة من التاريخ العربي.
من جهة أخرى، فإن المقاربة الإناسية لمسار جزئي خاص بالميسر وما قام به الإسلام من تحريم له، تساهم بصورة نوعية في رفع جزء هام من الغموض المتصل بمعنى الميسر والزكاة وأثرهما في تكوين الدولة الإسلامية الأولى. ذلك أن إدراك طبيعة الميسر الدينية والاجتماعية والسياسية يتيح الكشف عن جانب من الآليات والمسالك التي اتخذتها حركة الواقع والتي يسّرت التحوّل من الوضع "الجاهلي" إلى الانتظام "الإسلامي".
ما وراء هذا هو محاولة إسهام في الإجابة عن الحدث الإسلامي السياسي المؤسس: فهل كان من خلال نشوء الدين الجديد وأنه أدى إلى ازدواجية بين النظام القبلي ومنظومة الدولة الناشئة؟ أم أن الرسالة الدينية أحدثت تحولا جذريا للحياة الاجتماعية-السياسية بما أنهى النظام القبلي في أخص مقوماته وأرسى دولة قادها الرسول بنفسه؟ أم أن الأمر يعني شيئا آخر؟
-2- ينطلق كتاب محمد الحاج سالم في أبوابه الأولى من تحديد معنى الميسر والقمار ورفع الغموض المحيط بالأول ولما لحقه من تشويه باقترانه بالثاني. بحفريات شيقة وموثقة ينتقل بنا البحث عن طبيعة الميسر بسعي تحليلي للشعر الجاهلي والأمثال والقصص والمقارنات اللغوية لضبط الدلالات الخاصة بالاستقسام والأزلام والأنواء والأسواق ومجالس الخمر مع ما يقاربها خارج فضاء الجزيرة العربية عند الهنود الحمر وجزر المحيط الهادي. إلى هذا اهتم المؤلف بالجانب الديني القديم، آلهته ونجومه وأنصابه وذبائحه وما تحيل عليه من معتقدات ورموز وتصورات وما تعنيه من احتياجات اجتماعية واقتصادية وروحية، معززا ذلك بالتحرّي في وقائع تاريخية وما يرتبط بهذا النسيج من دلالات سياسية.
بهذه المقاربة ووفق نظرية الصيغة البنيوية في علم النفس الإدراكي، يتبدى لنا الميسر متجاوزا بصورة كاملة ونوعية ما أقرّه التعريف الفقهي المكتفي بظاهر التحريم والمراوح بين كونه قمارا أو ضرباً من "المغالبات التي يكون فيها عوضٌ من الطرفين".
قراءة الحاج سالم تعتبر أن الميسر استُهدِف قرآنيا تصديا لطقس وثني استسقائي، وممارسة اجتماعية تقوم على لعبة تنافسية ذات قواعد، تُنحر فيها الإبل المتراهن عليها في زمن القحط، لتقدم دماؤها إلى الآلهة، وتوزع لحومها على الفقراء حماية للقبيلة بما يحفظ كيانها ويقيها من كل عدوان خارجي.
ولمواصلة الحفر الاستقرائي، يتجه اهتمام الحاج سالم في الباب الثاني من كتابه بالأبعاد الدينية والاجتماعية التي تكشف أن الميسر الجاهلي نظامٌ كامل مركّب: "هو طقس ديني - سحري مرتبط زمنيا بغياب نجم "الثريا" يتطلب نحر الإبل استسقاء واسترضاء للقوى العلوية. هو في ذات الوقت وليمة جماعية تمليها كل مسغبة لإغاثة فقراء القبيلة إثباتا لمن تصحّ زعامته فيها.
لكنه أيضا تحطيم فائض الإنتاج في الإبل الذي لا تتمكن الجماعة من إعادة إدخاله وتوظيفه ضمن الدورة الإنتاجية بما يمثّل خطرا على كيانها الاجتماعي الرافض للفوارق الطبقية".
على هذا يضحي الميسر مؤسسة تضامن مجتمعي ذات أساس صابئي يتنافس فيه وجهاء القبيلة بلعب له ضوابط أرساها الأسلاف تكريسا للتلاحم العصبوي داخل القبيلة الواحدة، باسترضاء الآلهة وطلبا للغيث المحقق للخصب.
-3- في الباب الثالث يوغل الكتاب مع ما يحيل عليه موضوع الغيث والاستمطار من المنظور الإناسي للميسر من تمثلات قديمة للنسق المغلق الخاضع للآلهة ومقتضياتها المثالية مع ما فيه من حمولة جنسية رمزية. عندها يبرز ما ينطوي عليه الميسر من دلالات تجعله أحد طقوس الخصب عند العرب الغابرة بما له من جذور أسطورية يُستذكر فيه الزواج البدئي ومقتضياته في الخصب والازدياد.
يتوسع الحاج سالم في حقل مزدحم بالرموز الموصولة باعتقاد دهري بحيث تكون الآلهة صانعة للأحداث، ووفق منظومة التماثل الرمزي الدالة على أن ما يجري في السماء له أثر نظير في الأرض. هذا ما يستلزم عملا استرضائيا، عند كل خلل طارئ على الحياة، يرأب صدوع النسق المُختلّ. الميسر، بهذا، "ترياق" تتلاقى فيها فحول الإبل بالنوق في موسم ضرابها وتزاوجها متساوقة مع ما تماثله التفاصيل العملية والجزئية للعبة "الميسر" في أدواتها أو حركاتها أو نتائجها وأطرافها.
تتعيّن بؤرة هذا المشهد المكتظ عند هذا الطقس في محورية المرأة وصلتها بالقمر، آلهة الخصب، والدورة الشهرية والعود الأبدي للتقويم. هو تناضُحٌ للمضامين الدينية والتصورية والاحتياجات الواقعية مع ما ينجم عنها من فعل إخصابي يكون ذروةً لبانوراما مسرحة الجنس لدى العرب الدهريين.
في الباب الرابع للكتاب تتويج تركيبي لما وقع عرضه وتحليله في الأبواب الثلاثة السابقة إذ كل ما قُدِّم من تفاصيل كان تجسيدا لصيرورة الميسر سياسيا.
يستعيد الحاج سالم في ذلك مقولة الدرس الفلسفي الآنفة من "أنه ما من شأن سياسي في تاريخ الإنسانية إلا وهو مدموغ بطابع ديني"، والتي تمكّن من تفهّم دينامية المنظومة العربية القديمة في تكامل جوانبها العقدية والاجتماعية والرمزية وفي تلاحمها بالسياسي. إناسيا، البعد السياسي للميسر هو الكُلّ الذي تتكيّف وفقه بقية الأجزاء والأبعاد وهو الذي يكشف المنطق الثاوي وراء كل ما سبق تناوله. هو بذلك البعد الأقدر على تعقّل المجتمع القبلي الذي لا يقرّ إلا بسلطة الأجداد والرافض لظهور أي سلطة تهدد كيانه.
عندها يتعيّن البعد السياسي للميسر: هو أوالِيَّة وبنية نموذجية، وظيفتها وغايتها في الانتظام القبلي الحيلولةُ دون قيام "الدولة". ذلك تحديدا ما قصد الإسلام نقضه بتحريم الميسر لدلالته "اللَقَاحيّة" المكرسة لتفتّت المجتمع ولتعزيز القبليّة والمدمّر للثّروة منعا لبناء تكتلات اجتماعية- سياسية متعالية على القبيلة ومهددة لها.
-4- في ضوء ذلك يمكن فهم تحريم الميسر وغايته السياسية مع ضرورة استبدال النظام القديم بنظام الزكاة المنمّي للثروة المحقق للتضامن المجتمعي بالارتكاز على منظومة قيمية وثقافية الإنسان، لا الآلهة، هو صانع الحدث والفاعل في التاريخ.
تلك عناصر الأطروحة التي يشتغل عليها الحاج سالم في مسعاه الإناسي:
* لم تتجسد رسالة الإسلام واقعا تاريخيا إلا بتجاوز كامل النسق "الجاهلي"، عقديا واجتماعيا ورمزيا وخاصة سياسيا. بهذا يمكن تفسير هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة، حيث الاقتدار الفعلي على مواجهة كامل المنظومة "الجاهلية" بمنظومة بديلة متكاملة.
* لا قطع، في قراءة الحاج سالم للميسر، بين السلطة الدينية والسلطة السياسية. هذا التلازم ظل مستمرا بعد ذلك بصور ونِسَبٍ مختلفة من التمايز بين المجالين.
* نتيجة لذلك، تتحدد فرضية الحاج سالم الخاصة بتكوين الدولة الإسلامية الأولى في أن رسالة الإسلام أحدثت ثورة جذرية اجتماعيا وسياسيا بما أنهى النظام القبلي مقيما مكانه نظاما مغايرا بالكلية.
ما يستقر من كل فصول كتاب الحاج سالم هو الأهمية البالغة لعلم الإناسة السياسية خصوصا في إسهامه النوعي ضمن أي جهد معرفي نقدي وبنائي. أسلوبيا جاء عمله البحثي، أقرب إلى رسم المنمنمات، إذ تضافرت فقراتُه ومقاطعه وفصوله لتلتحم فيما يشبه صورا تشكيلية إيضاحية تكثّف وقائع تاريخية وتتمثل نصوصا وعقائد وتصورات ورموزا لتصوغ منها ترسيمةً حافزة على المراجعة والتسديد. بذلك يفيدنا الحاج سالم، "رسّام المنمنمات"، بأن الانثروبولوجيا لا تقتصر على متابعة الحركات الكبرى على السطح بقدر ما هي استقراء دقيق وجريء يلج تشعبات حقائق الواقع بما يمكّن من اكتشاف التشابكات المعقدة والمتحركة التي تبني فهماً عميقا وناظما لاختلاجات المجتمع وحراكه ودلالات كل مظاهر أدائه وإيقاعه.
لكن الكتاب، من ناحية ثانية ورغم انكبابه على الواقع العربي القديم وسعيه لفهم ما جرى آنذاك، يعبّر عن راهنية لا تكاد تخفى، هو وإن اشتغل بالحدث الإسلامي السياسي المؤسس فإنه بقي مشدودا إلى معضلة الدولة العربية المعاصرة يوحي بما يراه من موجهات بديلة لمصاعبها المتفاقمة.
مقتضى هذا الطرح اليوم يتطلب وعيا بأن علاقة الديني بالسياسي لدى المسلمين ذات طبيعة إشكالية، فليس لها حلٌّ ناجز ونهائي بل إنها علاقة قابلة للتجدد الدائم. ذلك يقتضي مغايرة الوعي المفوَّت وفكر القطيعة وإقرارا بالتمايز المتغيّر. عماد ذلك تعاطٍ علمي للـ"الإسلاميات التطبيقية" التي طالما دعا إليها محمد أركون، وفي هذا يُعتبر كتاب "من الميسر الجاهلي" نموذجا جيدا لمجال منشود وواعد.
(كاتب وأكاديمي تونسي)