على الرغم من العزلة التي فرضها مصطفى كمال أتاتورك على الجمهورية التركية الوليدة، منذ تأسيسها عام 1923، ومحاولاته هو وحزبه من بعده لقطع علاقاتها بالعالم العربي على مدار عقود، إلّا أن أصداء الثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي، التي اندلعت عام 1954، وصلت إلى تركيا، التي تضامن عددٌ كبير من كُتّابها مع المناضلين والمناضلات في الجزائر، وعلى رأسهم جميلة بوحيرد.
ومن أبرز الشعراء الأتراك الذين تضامنوا مع الجزائر، الشاعر أحمد عارف، الذي يصادف اليوم، الثالث والعشرون من نيسان/ أبريل، ذكرى ميلاده في ديار بكر عام 1927. وقد كتب الشاعر، الذي ينحدر من أصول كردية، هذه الرسالة للمناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد بعدما حُكم عليها بالإعدام عام 1958 من قِبَل الاحتلال الفرنسي، قبل أن يُخَفَّف الحكم إلى السجن المؤبد. نُشرت هذه الرسالة ضمن كتابٍ أصدره الكاتب التركي عوني شويكار في العام نفسه باسم "الجزائر الحُرّة"، ويتضمّن العديد من القصائد والرسائل المهداة من بعض الكُتّاب الأتراك إلى "جبهة التحرير الوطني" الجزائرية.
أمامكِ سَريّة من الجبناء الذين يخافون فهم وحُبّ عالَمنا
يُعَدّ أحمد عارف من أبرز شعراء الواقعية الاشتراكية في تركيا. وُلد في مدينة ديار بكر، لأبٍ من كركوك وأمّ من ديار بكر، ودرس الفلسفة في "جامعة أنقرة". بدأ كتابة الشعر في منتصف الأربعينيات، وقادته أشعاره إلى السجن أكثر من مرّة، كما مُنعت من النشر بسبب اتّهامه بالشيوعية. يعتمد عارف في قصائده على الموروث الشعبي في الأناضول، وقد نشر أشعاره في مجموعة واحدة، صدرت عام 1968 بعنوان "من الشوقِ عتّقتُ أغلالي". رحل في أنقرة، عام 1991.
هنا ترجمةٌ لنص الرسالة.
"لا أعرف عنكِ غير اسمكِ وسنّكِ. لم أر وجهكِ، ولكنْ لديّ أختٌ في مثل عمركِ. أنتِ تشبهينها بالتأكيد، ولا يمكنني أن أتصوّر غير ذلك. أنتِ روحُ الجزائر، وأنا من تركيا. ورغم أنّنا أبناء مياهٍ مختلفة وأراضٍ مختلفة، إلّا أنّنا إخوة.
عندما جلستُ لأكتب هذه الرسالة الملعونة، كانوا يجهّزون لإعدامكِ. أمامكِ سَرِيَّة من كتائبِ الجبناء الذين يخافون من فهم وحُبِّ عَالَمِنَا وحَيَاتِنَا، ولو حتّى بمقدارٍ لا يتجاوز حجم دودة الأرض.
هم كذلك دائماً. يُحبّون الأسلحة ومطاردة البشر والظلم. مَن هؤلاء؟ من أيّ سلالة ينحدرون؟ سيتوقّف عقلي…
ربّما لم يحبّوا في حياتهم طفلاً أو زهرةً أو أغنية، ولو لمرّة واحدة. لم يقدروا على الدخول بشرفٍ في حِضن عاشقةٍ وجَبِينُهم يتصبب عرقاً. ولم تشعر قلوبهم بالمروءة، واحترام الروح، وحُبِّ الدّنيا، ولو للحظة واحدة.
وبلا خجل، يدّعون أنهم يمتثلون للإنجيل الشريف. ومع ذلك، فإنّ أفعالهم ليس لها مكانٌ في أيّ كتاب. لقد اسودّت وجوههم في كلّ العالم، فكيف سيعرفونَ قيمة روحكِ التي هي أقدس ألف مرة من مريم العذراء.
أمامكِ سَرِيّة. إنها سَرِيّة الموت. لقد خُدعوا بالأموال والأكاذيب وبالخوف القذر.
ولهذا فإنهم وقِحون وظلمة…
ذراعاكِ الرقيقتان كذراعي الطفل مكبّلتانِ خلفَ ظهركِ، لكنّني أعرف أنّكِ لن تقبلي أن يعصبوا عينيكِ.
أتخيّل وقوفكِ منتصبةً أمام فوّهات البنادق. هل سيكون آخرُ كلامكِ من نشيد نضالكِ، أم بيت شعرٍ، أم سيكون تحيّةً لأمّكِ وإخوتكِ؟
أنتِ في التاسعة عشرة. إيّاكِ أن تقولي لم أشبع من شبابي. أنتِ منذ الآن خالدة. فكم مِن الذين إذا عاشوا ألف عام، لن يكون بوسعهم أن يجلبوا الكرامة إلى الحياة مثلما فعلتِ.
في جزائر الغد... في الجزائر المُحَرَّرَة، سيتعلم الأطفال في المدارس اسمَكِ أوّلاً، قبل أن يتعلّموا الحياة.
صدِّقيني، أريدُ أن أكون معكِ، أو أكون مكانكِ وهم يطلقونَ النار عليكِ.
الحياة تافهةٌ وبلا معنى، مقارنةً بموتكِ يا جميلة".
أحمد عارف