عرف المشهدُ التربويّ العربيّ، في أيّامنا، تغيّراتٍ جذريّةً مع التوسّع الانفجاريّ للمعارف، وصعود الرّقمنة، بما أتاحته من ازدهار التعليم عن بُعْد، وانتشار الوسائط المعلوماتية. وليست آثارُ ذلك بالهيّنة. كما لم تَعدْ الأعمال التي اشتُهرت، في آخر عُقود الألفيّة الماضية، كافيةً، مثل أبحاث أحمد شبشوب في علوم النفس والتربية، التي خصّصها لترجمة أحدث النظريّات البيداغوجيّة الغربيّة وإظهار مُوافقتها لما تناثرَ، في التراث التربويّ العربيّ، من وصايا وحِكَمٍ وتأمّلات. كأنَّ التاريخ تَجاوز أبحاثاً كهذه بأحقاب، مع أنها كانت رياديّةً زمنَ صدورها.
وفي ظلّ هذا الإدراك المزدوج لقُصور مبادئ التعليم في التراث ولتسارع التحوّلات وشمولها، ظهرت الحاجة المعرفيّة إلى إحلال العمليّة التربويةِ رهاناً ثقافيّاً في صميم التفكير العلمي والنقديّ، من أجل إعادة ترتيب مسارها، أو على الأقلّ جَسْر الهُوّة الرهيبة التي تَفصلنا عن التحوّلات الحاسمة التي عرفها حقلا التعلُّم والتعليم في أصقاع الأرض. كما تأكّدت ضرورةُ القطع مع الخطاب الاشتكائيّ، الذي يكتفي بتهويل الثغرات وتسجيل هنّات الأطراف التربويّة، من أساتذة وطلابٍ ووسائط، والانتقال إلى المقاربات المعرفيّة لتلك الثغرات والارتقاء بها إلى مصاف الموضوعات العلمية التي تُلاحَظ ولا تُقيَّم، والتي يُفكَّر بها تجريبيّاً، ولا تُنتقَد سياسيّاً.
أولى مفارقات التعليم، عربياً، تصاعد التشكّي من ثغراته
هذه المهام هي عينُ ما نهضتْ به مجلّة "منهجيّات" (بادرت إليها "مؤسسة ترشيد")، وقد صَدرت منها إلى الآن ثلاثة أعداد، بعد أن تَكرّست للشأن التربويّ وجعلتْ همَّها الوقوفَ على مظاهر القصور والمساعدة على التفكير العلميّ فيها.
كما تولّت هذه المجلةُ الفتيّة مهمّةَ نَشر مستنداتٍ ونصوصٍ، نظريّة وتطبيقيّة، بعضُها أصيل والآخَر مترجَم، حول أطراف المسار التربويّ الثلاثة (الأستاذ والطالب والوسيط) وما يهمّ كلّ واحدٍ منها، ولا سيما في أيامنا الراهنة، بعدَ أن اهتزَّ فيها هذا المسار، ليس فقط بفعل جائحة كورونا وعواقبها، وإنّما بسبب جملة التحوّلات الجذريّة التي طاوَلت المعرفة واللغة، وأبعدَ منهما، مَنظومة الأخلاق وجهاز القيم التي تُحرّك المجتمعات من خلف سِتار.
ذلك أنّ أولى مفارقات مشهد التعليم، في وطننا العربي، تصاعدُ "التشكّي" من ثغرات التعليم والهَدر المدرسيّ وقطيعته مع الحداثة، وهيمنة التقليد - وهي مآخذ مشروعةٌ وواقعيّة. ولكنْ، وفي مقابل ذلك، يغيب التفكير النظريّ الذي يعالج هذه الثغرات بشكلٍ نسقيّ، ويجعل من التربية ومناهجِها ومضامينها ووسائلها وعوائقها موضوعاً إيبيستيمولوجياً، أيْ: قِطاعاً من قطاعات نظريّة المَعرفة، يُسائل وسائطَ اكتسابها ومحتوياتها وعلاقتها بنظرة الإنسان إلى ذاته وإلى مُجتمعه والكون، عبر الاستِناد التامّ، لا على التجارب الفرديّة والظّواهر المنعزلة، بل على شبكة العلوم الإنسانيّة وما يجري فيها من الأبحاث المُعمّقة حول اللغة والفلسفة والتاريخ وعلم النفس والاجتماع، ومن جهة ثانية على ما يَظهر، في قطاع التربية والتعليم والتواصل، من فتيِّ النظريّات وحديثِ المناهج والمضامين.
كُتبت مقالات المجلة انطلاقاً من تجارب حقيقية لكتّابها
ونجد أثراً من هذه القضايا في آخر أعداد مجلة "منهجيات"، الذي صدر منذ أيام، وذلك في مسعىً من المشرفين عليها إلى إرجاع التدريس إلى صميم التساؤل المعرفيّ. ولعلّ إطلاقَ اسم "منهجيات"، على هذه المجلّة، يهدفُ إلى التنصيص على أنَّ القضيّة الأمّ لا تكمن في المضامين والمُقرّرات التعليمية - فهي وفيرة متنوّعة - بل في المنهج الذي ينبغي أن يُعاد تقييمُه، جذريّاً، حتى نقطع مع الطرق التقليديّة في التدريس وتصوّراتِها البالية.
اختيار هذا المنظور حاسمٌ وعاجل. فهو يُفضي إلى تساؤلٍ رئيسٍ يتّصل بالمنهج، لا بالموضوع وبكيفيّة التعليم، قبلَ مادّته. ولهذا كان سؤال "كيف نُعلّم؟" منطلقَ المقالات الثمانية التي جهدت في أن تجيب عنه، عبر استعراض نظراتٍ ونظريّاتٍ تستنطق هذه المهمّة الدقيقة، في العالم العربيّ، في ظلّ انكفاء دَور الدولة أو ضموره وصعود المبادرات الفرديّة، فضلاً عن التفاوت الكبير بين هذه الدول في امتلاك ناصية الوسائل والمستندات الرقمية، خصوصاً في وضع الانغلاق التّام الذي عاشته بعضُها خلال السنة الماضية.
وقد أكّدتْ مقالات هذا العدد الجديد، مثل سابقَيه، ضرورةَ المرور إلى التناول الإشكاليّ لقضايا التنشئة والتعليم والتلقين، والقطع مع النظرة التبسيطيّة لمظاهره التي استهلكتها ورسّختها المقاربات الماضويّة، والتي يَظلّ فيها التعامل بين طرفَي التعليم عموديّاً سُلطويّاً، غير متناسبٍ مع تفكّك مفهوم السلطة، بمرجعيتها البطريركية والدينية والسياسية، وهو ما يقتضي استنطاق كلّ عناصر هذا المسار المعقّد. ولا بدّ مِن كَسر البَداهة نهائيّاً، ليحلّ مَحلها تعاملٌ إشكاليّ - نقديّ مع التعليم، تتموضع فيه كلّ الأطراف، على قدم المساواة، ويشمل مضامين التربية والعلاقات والآفاق والغايات، وهو ما قد يُساعد على صياغة فرضيّات عن التمثّل واكتساب المهارات، لا إلى ترسيخ يقينياتٍ طالما كبّلت العقل العربي وتركت قطاعات التعليم، في وطننا، متخلّفةً عن وتائر الحداثة المُتسارعة.
حاجة معرفية إلى جعل العملية التربوية رهاناً ثقافياً
حُرّرت جلّ مقالات الأعداد الثلاثة انطلاقاً من تجاربَ حقيقيّة، عاشها كُتّابُها، وهم من خيرة نِساء التعليم ورجالاته عندنا، داخلَ فصولهم أو عن بُعْد، مع تلاميذهم الفعليين، ما يضفي على تحليلاتهم طابعَ الواقعيّة وينزع عنها تهمة التجريد والعموميّة. والحق أنّ نظريّات التربية ما كان لها أن تتطوّر إلّا بفضل هذا الاستمداد من مَكنَز الوقائع والاعتماد على "التجارب" البيداغوجيّة الحيّة التي يُجريها الأساتذة بعد أن يكونوا قد تزوّدوا بجهازٍ نظريّ كاملٍ، تحرّكه فرضيّاتُ عملٍ ناضجةٌ وتَهدي سُبُلَهم منهجيّةُ استقصاء واضحة.
ومن هذه القماشة التجريبية نفسها، تأتي "المحاورات" الشيّقة التي دأبت "منهجيات" على إجرائها، مع أبرز المختصّين في حقل علوم التربية. وهو ما حصل، في هذا العدد، مع منير فاشه الذي عَرض لمَسيرته الثريّة ولمختلف التعالقات التي عَقَدها بين حياته الشخصيّة ووقائع التعليم والتعلّم، وصولاً إلى تطوير رؤية متماسكة عنها ووضع مُصطلحاتٍ فنيّة مثل: "الحكمة" و"العافية" و"المجاورة".
ومن اللافت أنَّ هذه التجارب، التي رسمتها موادّ "منهجيات"، تشمل كافة أقطار العالم العربي، من قَطر إلى المغرب مروراً بفلسطين ولبنان وغيرها من البلاد، ما يُغطّي رقعة جغرافيّة واسعةً. ولكنّ ذلك يكشفُ، في المقابل، التفاوتاتِ الشّاسعةَ بين هذه الأقطار، حتى لَيُمكن الحديث عن قطيعةٍ أو كسْرٍ تربويّ ورقميّ، وعن سوء توزيعٍ للفُرص والمُقدّرات، يدفع ثمنُه فقراء المتعلمين ومُهمّشوهم.
كما طُبّقت هذه الأبحاثُ على سائر الموادّ المدرسيّة، سواءً تلك التي تنتمي إلى العلوم الدقيقة، كالرّياضيات والفيزياء، أو العلوم الإنسانيّة، كالتاريخ والجغرافيا واللغويات، ما يجعل التساؤل المنهاجي أكثر تنوّعاً وأشمل لضروب النشاط التربويّ. وبذلكَ تُسدي "منهجيات" خدمةً جُلّى للقائمين بالتّعليم، على اختلاف اختصاصاتهم، وتَسمح لهم بالتحاوُر، فَالاستفادة من طرائق عَملهم.
تسعى المجلة إرجاع التدريس إلى صميم التساؤل المعرفي
ولا بد من التّنصيص أخيراً على تشكُّل مُعجمٍ خاصٍّ بالتربية والتعليم في الضاد، تجترحهُ، في عُمقٍ وهدوءٍ، سلسلة المقالات المقدّمة والمُترجمة، مهما كان جنسُها (خاطرة، مقال علمي أو وصفٌ لتجربة). فقد طوّر هذا العدد، كسابقَيه، حقلاً دلاليّاً كاملاً متماسكاً، حول أصول التربية. ولئن كانَ جُلّه مألوفاً لدى أهل الاختصاص، فإنّ العديد من مُفرداته من جميل المُوَلَّد وأنيقه، ويتوفّر على مقوّمات المصطلح العلميّ في العلوم الإنسانيّة، ولا سيّما في ما يتعلق بظواهر التعليم الرقمي عن بُعد. ويَحدو بنا ذلك إلى التفكير في وضع قاموس خاص بها يُبيّن معانيها ومقابلاتها ومماثلاتها، قد يضاف إلى "معجم المصطلحات التربوية والنفسيّة" لحسن شحاتة وزينب النجار (2014)، والذي يبدو أنّ الأحداثَ قد تجاوزته اليوم.
مَجلة "منهجيّات" خطوة أولى على درب التعليم المعاصر، تكشف خطرَ المهامّ التي تنتظر الأسرة التربويّة الموسّعة أكثر ممّا تقدّم لها حلولاً جاهزة؛ تُظهرُ تشعّبَ الطّريق ووعورتَه ولا تمنح خريطةَ ارتيادِه، كما تؤكّد أنّ المعضلات التي على المختصّين التفكيرُ فيها أكبرُ من أن ينهضَ بأعبائها فردٌ منعزلٌ في فَصْله البَعيد أو كاتبٌ هاوٍ يتوه في تأمّلاته الذاتية. هي عملٌ علميّ تُعقد عليه آمالٌ عِراضٌ: وضع التدريس في قلبِ أولويّات الثقافة العربيّة؛ "وتُناط الآمال إذا ما اتَّصَلَ الشُّغل".
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس