لم يتوقَّف دارسو عمل حازِم القِرطاجَنّي، منذ الستينيات، عن الثناء على نظرته ورؤيته الأصيلة، ولا سيّما في كتابه "مِنهاجُ البُلَغاء" الذي ألّفه في تونس، في القرن السابع الهجري، الثالث عشر الميلادي، حيث هاجر مؤلِّفه الأندلسي بعد الانتصارات المسيحية الحاسمة في شبه الجزيرة الإيبيرية الشرقية.
كان عبد الرحمن بدوي قد نشر جزءاً من الكتاب عام 1961، ثمَّ أصدر محمّد بن الخُوجة النسخة الأُولى منه عام 1966. وقد أشار بدوي، في معرض حديثه عن الكتاب، إلى أنّ فيه "معرفة فلسفية عميقة وقدرة كبيرة على تحليل الأفكار الجمالية؛ ويمكننا أن نؤكِّد على أنّ هذه الصفحات تحتوي أوّل محاولة عربية في عِلم الجَمال".
أمّا ابن الخوجة، محرِّر النسخة الأُولى، فقد أكّد على أهمية الكتاب في توحيد الأفكار اليونانية، ولا سيّما الأرسطية منها، حول الخطابة والشعر مع الأعراف العربية الغنية، وكان ذلك للمرّة الأُولى، وهو ما أدّى إلى نهجٍ يتجاوز النظرية الخطابية السابقة، ويستند إلى العلوم اللغوية والنحو، والمنطق، والخَطابة نفسها، والشعر.
وقد لاحظَ إحسان عبّاس في وقتٍ لاحقٍ نهج حازِم الشامل والصارم في النقد الشعري والشعر: "الأندلسي يعطي وزناً متساوياً من ناحيةٍ للشاعر نفسه والومضات الروحية التي تؤدّي إلى الشعر، ومن ناحيةٍ أخرى إلى الأسلوب التأليفي والشكل الفنّي، ذلك المزيج الذي كان نادراً في النقد المُبكّر".
جوابٌ على القيود الأخلاقية التي كبّل بها ابن رشد الشعر
وُلِد حازم في قرطاجنَّة، عام (608هـ/ 1211م)، وقضى مرحلة شبابه بين تلك المدينة ومُورسيه Murcia. درس الفقه والأحاديث الشريفة وتلاوة القرآن، وأَولى اهتماماً مبكراً بالموضوعات اللغوية. وعلى غرار أبيه الفقيه المالكي، تعلّم النحو في المدرسة البصرية العراقية، مثله مثل العديد من الأندلسيّين. وكان أيضاً حافظاً عظيماً للأحاديث النبوية والسجلّات والأدب، بالإضافة إلى الشعر. انتقل إلى غرناطة ثمّ إشبيلية، وتابع تعليمه مع كبار عُلماء زمنه، كأبي علي الشلوبين، الذي علّمه الفلسفة اليونانية: المنطق والخطابة والشعر، إضافة إلى أعمال الفارابي وابن سينا وابن رشد، وغيرهم من الفلاسفة. ويبدو واضحاً أنَّ حازماً قد درس كتاب "فن الشعر" لأرسطو من خلال الترجمات العربية المختلفة.
عاش حازم مصيراً محزناً في الأندلس، التي كانت تمرّ آنذاك بوقت عصيب. فبعد أن أوقع المسيحيون الهزيمة بالموحِّدين في "معركة العقاب" عام 1212، أصبح التمدُّد المسيحي غير قابل للإيقاف، ولا سيّما بعد سقوط قرطبة عام 1236، حيث غادر عدد من علماء الأندلس إلى المنفى، وهنا تغيّرت حياة حازم تغيُّراً جذريّاً في سنِّ العشرين، ولا سيَّما بعد وفاة والده، والسقوط السريع لمدن الأندلس: قُرطبة عام 1236، وبياسة Baeza عام 1237، وبلنسية Valencia عام 1238، وشاطبة Játiva، ودانية Denia عام 1240.
وبعد سقوط محمّد بن هود، عام 1237، كانت شبه الجزيرة الشرقية مفتوحة أمام جيوش المسيحيين، وكان على العديد من سكّانها اللجوء إلى مملكة بني النصر الناشئة في غرناطة، أو عبور المضيق للعيش في ظلّ الإمبراطورية الحفصية في تونس. هكذا، اتَّخذ حازم القرطاجَنِّي الخيار الأخير، غير أنّه لا يُعرف تحديداً تاريخ مغادرته الأندلس، ويخمن أن يكون في الفترة الواقعة بين وفاة والده وعام 1242.
ترك حازم أرضه الأمّ حين كان عمره أقلَّ من ثلاثين عاماً. وعند وصوله إلى تونس، أنشد أمام الأمير قصيدةً طويلةً، يطلب فيها اللجوء إليه بعد أن سقطت معظم بلدان الأندلس بيد المسيحيّين. عموماً، لا يُعرف إلَّا القليل عن حياة حازم، الذي توفّي عن عمر ناهز 76 عاماً، أي (684 هـ/ 1285م)، وعن أعماله التي ذُكرت في مصادر مختلفة، مثل بعض قصائد الوصف وقصيدته "المقصورة" الشهيرة، وبعض القصائد الصوفيَّة. أمَّا بالنسبة إلى كتبه التي وصلت إلينا، فنذكر منها كتاب "مِنهاجُ البُلَغاء"، وثلاث أوراق مِن "كِتابِ القوافي"، وُجدت في مخطوط المنهاج نفسه، كما أنَّنا نعرف أنَّه ألَّف أعمالاً أُخرى لكنَّها لم تصل إلينا: مثل "الرسائل الديوانية"، و"كتاب التجنيس"، و"دحض الرسالة النحوية في كتاب المُقَرِّبْ لابن عصفور الإشبيلي".
ألَّفَ حازم "مِنهاج البُلغاء" في وقتٍ ثُبِّطَ فيه الشعر والنقد الشعري العربيان، ولا سيَّما بعد غياب الشخصيات العظيمة في كلا الحقلين. آنذاك، تعرَّض الشعر لهجمة شرسة، حيث اتُّهم بالتحريض على الباطل، أو في أبسط الحالات، بأنَّه مجرَّد غناءٍ مقفَّى. كان مصير حازم أن يعيش زمناً من الانهيار الاجتماعي والنفي. ربّما، لهذا السبب تحديداً، حاول جاهداً إحياء البهاء الثقافي، وذلك عبر دراسة الكلاسيكيات وصياغة طريقة تُضيء وتُحيي فنَّ الشعر بأشكاله كافّةً.
أعمقُ نظريّة في فنون المحاكاة في العالم الإسلامي
وأمام قيود الأخلاق والفصاحة والخطابة التي كبَّل بها ابن رشد الشعر، قرَّر حازم إنقاذ القصيدة العربية من تلك السلاسل بعزمٍ وروحٍ خلَّاقة، موحِّداً عناصر النظرية اليونانية مع أساسيات التراث العربي، عادّاً الشعر، على نحو دائمٍ، فنّاً معقَّداً وصالحاً بحدِّ ذاته. هكذا، من أجل هذه المهمَّة الإصلاحية، استند إلى كتاب "فنّ الشعر" لأرسطو، من خلال تلخيص الفارابي، واستفاد على نحو خاصّ من تلخيص ابن سينا، بعد أن أدرك أنَّ أفكار أرسطو لم تكن كافية أمام خصوصية الشعر العربي وتنوّعه الهائل، لذلك كان لا بدَّ من العودة إلى التراث الشعري العربي بغية تجديده. هذا هو المخطَّط الأساس الذي يتبعه حازم في نقده، واضعاً تلخيص ابن رشد لكتاب أرسطو أمامه إلى درجة أنَّه يُمكننا قراءة "مِنهاج البُلغاء" كجوابٍ على القيود الأخلاقيَّة التي كبَّل بها فيلسوف قرطبة، ابن رشد، الشّعرَ.
ويُعيد حازم النَّظر في جميع الموضوعات والعبارات المربكة أو المُقيِّدة في تلخيص ابن رشد: المُحاكاة، والتَّخييل، والصِّدق والنظام؛ ويُنظِّر فيها ويحلّلها بدقَّة بغية تحرير الفنّ من القيود الخارجيَّة واستكشاف الظُّروف غير النهائية تقريباً، التي تُؤثِّر في عملية الخلق الشعري، بحسبانه ظاهرةً متعدّدة الأشكال جوهرياً.
عموماً، لم يصل إلينا الجزء الأوَّل من الكتاب، ونعتقد، من خلال بعض مقاطعه، أنَّه يتناول فيه الخطابة الشفهية: أجزاءها وأدواتها ومناهجها وتأثيرها في المستمعين، والمسائل المتعلّقة بالتّعبير والتشبيه وقافية النثر والأقوال المأثورة. أمّا الأجزاء التالية، أي الثاني والثالث والرابع، فقد كرَّسها للأفكار الشعرية (المعاني)، والتراكيب (المباني والأسلوب)؛ وجميعها تتّبع صيغة منطقية تبدأ بالجوانب الأكثر نظرية وتنتهي بالتطبيقات العملية. ومن ثم، ينقسمُ كلُّ جزء إلى أربعة أبواب، تُسمّى "مَنهَج"، وتتألّف الأبواب كلّها من فصول تُسمَّى على التعاقب "مَعلَم" و"مَعْرَف"؛ وعادةً ما تكون هنالك ملاحظات خطابية يجمعها في فصول ختامية، تُسمَّى "مَأَمْ" أو "مَآمْ".
ضمن هذا الإطار ينهج حازم في عمله منهجاً شخصياً للغاية، ويبدو أنَّه قد عبَّر عن ذلك على نحو جيّد من خلال العنوان نفسه: "مِنهاجُ البُلَغاء وسِراجُ الأُدَباء". وبصرف النظر عن المنهج، والمسارَين الفكري والروحي، الذي يجب أن يتبعه الباحث، فقد شمل الكتاب سلسلة من الفصول التي أطلق عليها حازم تسمية "إضاءة" و"تنوير"، الأمر الذي يبرز على نحوٍ جلي نيَّته الإصلاحية والتنويرية، والذي ستنتج عنه جمالية خاصة بالنور، ترتبط إلى حدٍّ ما بشعريّته، على نحو عام.
ويختلف حُكم حازم على القصيدة العربية الجاهلية تماماً عن وجهة نظر ابن رشد الأخلاقية، بل إنّه يعارضها، ولا سيَّما إذا ما أخذنا في الحسبان فكرته الإيجابية عن الشِّعر. فبالنّسبة إليه، ثمّة نوعان من الاستعداد الذهني للشِّعر: "استعداد بأن تكون للنَّفس حال وهوى قد تهيَّأت بهما لأن يحرّكها قولٌ ما بحسب شدَّة موافقته لتلك الحال والهوى"، و"أن تكون النُّفوس معتقدة في الشعر أنَّه حكم، وأنَّه يستوعب نفسيّاً، والذي بوساطته تتمُّ الإجابة إلى مقتضاه والارتياح لحسن المحاكاة. وفي الثاني كان اعتقاد العرب، ولهذا كان ملوكهم يرفعون أقدار الشعراء المحسّنين، ويحسنون مكافأتهم".
لم تكن أفكار أرسطو كافية أمام خصوصية الشعر العربيّ
ثمَّ، بعد هذا كلّه، يقدّم حازم ملخَّصاً رائعاً لكامل شعريَّته، ممتلئاً بالوضوح والبصيرة الجماليَّة، حيث يشرح فتنة الجماليَّات عن طريق ربط مفاهيم المحاكاة والتخييل والتعجيب وأسلوب الإبداع الفني. وكلّما عظُم التعجُّب، عظمت اللَّذة وازداد التأثير النفسي، ولا سيَّما إذا كان تخييل الموضوع والصورة غير متوقَّعٍ، وغير عادي. وعموماً، كلّ نوع من المحاكاةِ والتَّخييلِ الفنيِّ يجلب التَّعجُّب، ويشتمل على درجة من الأسلوب الإبداعيِّ.
ويؤسِّس حازم فرقاً بين جمال الطَّبيعة المتمثّل في المرأة، وجمال الفنّ، الذي يمثّله التمثال والشعر. وينبغي للفن أن ينقل كليّاً، وبالتفصيل، ترتيب الكائن المُحاكى، لكن بالصورة الفنية المناسبة. وقد لاحظ جابر عصفور أنَّ حازماً يعطينا تطبيقاً عمليّاً لنظريَّته في "القصيدة المَقصورة العظيمة": "ففي وصفه للمرأة الجميلة، يبدأ بالعام، كما يفعل الرسّام القديم، ثم يمضي في التفاصيل، مستخدماً عبارات النور والبياض والجمال. إنَّه يتبع على نحو منهجي الترتيب الطبيعي لأجزائها بدقّة الرسّام، ويسعى إلى التعجيب من خلال نقل الانسجام التام للجسم الأنثوي، مع الاستمرار في جميع تفاصيله المرئية.
هكذا يشفِّر حازم التجربة الجمالية، مؤكِّداً، في الوقت نفسه، أنَّ المحاكاة الفنيَّة لا تصنع نسخاً حرفيّة، بل تقوم أساساً على إعادة بناءٍ تخيّلية وجميلة للواقع. وهكذا، ينتج التَّعجيب واللَّذة من جرَّاء إدراج الواقع الذي يجري تمثيله في ترتيبٍ مختلف، وهذا ما يفاجئنا ويجعلنا نراه في شكل مختلف. ويؤكِّد حازم رأيه هذا في فقراتٍ أخرى، ولا سيَّما عندما يربط مفهوم التَّعجيب بمفهوم الملاءمة، فإذا كانت التجربة الجماليَّة تهدف إلى إنتاج التعجّب، فيجب بناء القصيدة كوحدة متلائمة لها ترتيبها.
هكذا فهم حازم الفنَّ كتصويرٍ خياليٍّ ومحاكاة، على الرَّغم من أنَّه، وعلى عكس المعلِّم الثاني، لم يهتمُّ بالموسيقى. وقد خصَّص فصلاً كاملاً لهذا الموضوع، لذا يعدّ مادّة أساسيّة في الفلسفة. وبالحكم على النّصوص الموجودة، يمكن اعتبار الكتاب أوسع وأعمق نظريّة في فنون المحاكاة في العالم الإسلاميِّ. حيث طبَّق هذا النّاقدُ الأندلسيُّ أساسيَّات شعرية الفارابي وابن سينا، بناءً على الفكر اليونانيِّ، ودمجها وأثراها في فضاءٍ ثقافيٍّ مختلف تماماً. كان إسهام حازم الحاسم هو في تناول تلك المفاهيم الفلسفيَّة عن المنطق، ووضع الشِّعر، مرَّةً أُخرى، في المقدّمة، تماماً كما فعل الفارابي مع الموسيقى، مستغلّاً الرؤية الفلسفيَّة للفنِّ، ورؤية الخطابة العربيَّة.
(من كتاب "تاريخ الجمالية في الفكر الأندلسي"، ترجمة عن الإسبانية: جعفر العلّوني)
بطاقة
José Miguel Puerta باحث ومستعرب إسباني من مواليد غرناطة عام 1950. يعمل أستاذاً في تاريخ الفنّ بـ"جامعة غرناطة". يُعتبر أحد أبرز المتخصّصين في تاريخ الفنّ الإسلامي والأندلسي وبعلم الجمال عند العرب. إلى جانب ترجماته من العربية، ألّف مجموعة من الكتب، أهمّها: "البنية الطوباوية لقصور الحمراء" (1990)، و"تاريخ الفكر الجمالي عند العرب" (1997)، و"مغامرة القلم: تاريخ الخط العربي وفنّانيه وأساليبه" (2007).