كثيرًا ما تصادفُنا مقالاتٌ ومُحاورات على القنوات العربيّة، ضمن البرامج الثقافيّة، تَضع اليدَ على ما يَعتبره مقدِّموها تضاربًا في النصوص الدينية، سواءً أكانت قرآنيّةً أم نَبويّةً. وغالبًا ما يُستنتج من ذلك أنّ هذه النّصوص لا تتمتّع بأيّة قدسيّة، وأنها من صُنع البَشر الذين وضعوها في سياقاتِ نزاعاتهم التاريخية والثقافية، ولا بدّ من نبذها. وقد تكون تلك المَواطن النصية، المُشار إليها، مُلتبسةً بالفعل، ولكنْ يُضخَّم التباسُها ذاك بسبب عَرضِها في الفضاء العام فَيزيد من حدّتها، وخصوصًا إذا أضيفت إلى العَرض مظاهر احتفاء تهوّل التاريخانية المطلقة للنصوص المقدّسة التي بَنت شرعيّتها، طيلة القرون الماضية، على التعالي المُطلق لقِيمها.
ومن أمثلة هذه المسائل التي لم يكفّ الناس عن استعراضها، وأحيانًا في مَعرض السخرية والاستخفاف، غموضُ آيات القضاء والقدر واحتمال دلالتها على الشيء وضدّه، أيْ: على حريّة الإنسان في صنع قَدَره، وعلى خُضوعه للإرادة الإلهيّة التي تقضي ما تشاء. ومن أمثلتها أيضًا ما يُطلَق عليه في بعض المحاورات "الأخطاء اللغويّة" في النصّ القرآني مثل آية: "إنَّ هذان لَساحِران" (سورة: طه)، والأمثلة عديدةٌ. ويضاف إلى ذلك ما سُمّي بـ "الأخطاء العلميّة" التي تُظهر "تضارُبَ" ما في النصوص الدينيّة مع نتائج العلوم الصّحيحة.
وهذه هي نفس القضايا التي خاض فيها المستشرقون والمبشّرون المسيحيّون واليوم بعض الصحافيّين وأنصاف المثقّفين، وكلّها تتنزّل ضمن ظاهرة الغموض والالتباس. وقد اتّخذ حضور هذه "الإشكالات" ذريعةً إلى نبذ التراث كلّيًّا واعتباره متناقضًا، بل واستندت بعض دعوات إعادة قراءة التراث العربي إليها، حيث حاول مثقّفون مثل محمد عابد الجابري وحسن حنفي والطّيب تيزيني استكشافَها وتسليط الضوء عليها، ممّا يعني أنها ما تزال تمثّل "مناطق صعبة" في فهمه وتسويغ رؤاه، وتضرب شرعية المناداة بالاعتماد عليه في بناء النهضة والتحرّر الذهني.
يُضخَّم التباس النصوص الدينية بعرضها في الفضاء العام
وفي الحقيقة، هذه القضايا معروفة جيّدًا لدى جمهور المفسّرين وفلاسفة الإسلام قديمًا، ولا سيّما علماء أصول الفقه الذين خصّصوا مصطلح "الإشكال" للدلالة على وجود تناقض ظاهريّ في النصوص المقدّسة. ولم يكتفوا بالإقرار بهذا الالتباس فحسب، بل واقترحوا له حلولًا جذريّة تنزع طابَعه الإشكالي هذا وتردّ النصَّ إلى حظيرة البَيان والتماسك. وكان من أبرز مَن اشتغل على هذه المواطن المعضلة المُفسّر الأندلسي ابن عطيّة (1088 - 1146) في كتاب "المُحرّر الوجيز" والذي اعتَمده المفسّر التونسي محمد الطاهر بن عاشور (1879 - 1973) في "التحرير والتنوير"، حيث جَعلا وُكْدَيْهِما الوقوفَ على هذه المواطن وبيان غموضها حتى يظلّ النصّ معقولاً متماسكًا، لا تتعارض ظواهرُه مع الأصول الكبرى للدين ولا مع قواعده المنطقيّة.
ولا أحدَ يُنكر أنّ بعض إجاباتهم أو "توجيهاتهم" لمظاهر الالتباس قد لا تُقنع كلّ القرّاء، نظرًا إلى بعض التكلّف الذي قد يُرتكب في إجرائها، ومع ذلك فإنّها تظلّ محاولات تأويليّة رصينة، تسعى إلى ما أسماه الباحث التونسي محمد النويري، في أطروحته عن "البلاغة وعلم الكلام": "تَدبير النصّ"، وفيها استعاد مظاهر تداخُل علم الكلام بعلوم الدلالة في الثقافة الإسلاميّة، وبيّنَ كيف أنّ قواعد البلاغة صيغت لإنقاذ مَعقولية النصّ وطابعه المنطقي.
فلسفيًّا، يُعدّ الغموض مكوّنًا بنيويًا من مكوّنات النص الديني وصيغ الدلالة فيه. لذلك نادى المفكّر الجزائري محمد أركون إلى اجتراح دلائليّة (sémantique) خاصة بالنصوص المقدّسة، لأنها تتوفّر على بنية شديدة الخصوصيّة سمّاها "البِنية الأسطورية القَصصيّة"، وهي التي تؤدّي وظيفة الإدهاش والتعبئة للمجموعات الإيمانيّة، تخاطب المخيال الجمعي، أكثر من مخاطبتها العَقل الصِّرف.
وأمّا ما يُستعاد اليوم على القنوات المُغرضة والكتابات المتحاملة، مثل ما كتبه الفرنسي كلود جيليو، المتخصّص في تاريخ التفسير، أو الباحث اللبناني الذي تخفَّى وراء اسم ألماني مُستعار كرِستوف لُكسنبرغ (Christoph Luxenberg)، في كتابه "قراءة سريانية للقرآن"، ثمّ مَن تبعَ آراءهم من المتفلسفين، فهو مجرّد إفقار لظاهرة الالتباس وآلياتها التركيبية والمعجميّة، والتي سبق للمفكر الإنكليزي وليام أمبسان (1906 - 1984) أن تناولها ضمن عرضه للجذور السبعة للغموض وأسبابه اللغويّة والسياقيّة في كتاب "سبعة أصنافٍ من الغموض" (1930). وهذا نفس ما سارت عليه المدارس الألسنية المعاصرة التي جعلت من الغموض موضوعًا رئيسًا لهذا الفرع من العلوم الإنسانية، باعتباره ملازمًا لكافة أشكال التواصل البشري ولا يكاد يخلو خطابٌ منها.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس