بعد 1800 عام من تدميرها على يد جيش أردشير بن بابك الساساني (180 - 242)، عادت مملكة عُمانا لتفصح عن نفسها، بالكتابتين الآرامية والعربية الجنوبية، في نقش جنائزي مزدوج، أُعلن عن الوصول إليه في العام 2016 في موقع مدينة مليحة بإمارة الشارقة، وضع حدّاً لتكهّنات بحثية دامت قرابة قرنين، لم تقطع على وجه اليقين بموقع المملكة المذكورة في كتب جغرافيي العصرين الهلنستي والروماني.
لقد حدّد المؤرّخ الروماني بليني الأكبر، المتوفّى في العام 79، حدود بلاد العمانيين بأنّها تمتدّ بين مدينة البتراء، عاصمة الأنباط، وحدود مملكة ميسان شمالي الخليج، وأنّ عاصمتها تدعى باتراسافافي (Batrasavave)، ناهيك عن امتداداتها على الساحل الشرقي للخليج العربي.
أمّا صاحب كتاب "الطواف حول البحر الإرتري"، الذي عاش بين القرنين الأول والثاني الميلاديين، فقد ذكر أنّ مدينة عُمانا سوق يسيطر عليها الفرس، وتحدث عن السفن الكبيرة التي تصل إليها من باروغازا (بهروش الحالية على ساحل الهند الغربي)، محملة بالنحاس، وخشب الصندل، وجذوع الأشجار، وأنواع مختلفة من الأخشاب، وكذلك البخور القادم إليها من ميناء قنا في حضرموت لنقله إلى الولاية العربية.
وكان لافتاً أنّ المكتشفات الأثرية في مدينة مليحة (الشارقة) وميناء الدور (أم القيوين)؛ أكّدت ما ذكره هؤلاء الرحالة والمؤرّخون حول النشاط التجاري لمملكة عُمانا في القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد، وهو ما كان يعد قرائن قوية على تأكيد هوية المكان ونسبته إلى المملكة المذكورة في المصادر التاريخية، ولكن أتى النقش المزدوج ليؤكد المؤكَّد ويثبت ــ بما لا يدع مجالاً للشك ــ أن آثار مليحة وأم القيوين ترجع لمملكة عُمانا.
فجر التاريخ
لم تكن مملكة عُمانا في أوج نشاطها التجاري والثقافي معزولة عن سياقها الحضاري المتصل والمتواصل، بل كانت في خضم مخاض طويل شهد تفتح أولى مراكز الحضارة البشرية في جنوب بلاد الرافدين، حيث بزغ فجر الكتابة من مدن سومر وأكاد، والذي نقل البشرية خطوات واسعة إلى الأمام. منذ اكتشاف الألواح السومرية والأكادية، والمسلات الآشورية في بلاد الرافدين وتحليلها وقراءتها، انشغل الباحثون بتحديد مواقع دلمون وملوحا ومجان. فهذه الأقاليم الثلاثة، التي تشكل أرض البحر بالنسبة للعالم السومري - الأكادي، حسب الكثير من الدراسات الآثارية، أُلحقت بأسماء بعض ملوك بلاد الرافدين عند الحديث عن سعة ممتلكاتهم وعظمتها.
فهذا سرجون الأكادي (حكم منذ عام 2334 حتى 2279 ق. م)، أعظم ملوك وادي الرافدين، يصفه نقش على تمثال نُحت بعد موته على الأرجح بأنه "سرجون ملك كيش انتصر في أربع وثلاثين حملة، وهدم المدن جميعها حتى شاطئ البحر، وعلى أرصفة أكاد أرسى السفن من ملوحا وسفناً من مجان وسفناً من دلمون...". وها هو ملك من ملوك آشور، توكولتي نينورتا الأول، الذي حكم منذ عام 1242 إلى 1206 ق. م.، يسمّي نفسه: "ملك سبار وبابل... ملك دلمون وبلاد ملوخا، ملك البحار العليا والسفلى... ملك جميع الجبال والصحارى...".
وكانت ملوحا ومجان مكانين أساسيين في أساطير سومر إلى جانب دلمون. ففي أسطورة إنكي ونينخورساج، نرى سفن ملوخا ــ التي تُسمى ماكيليوم ــ تنقل الذهب والفضة الى معبد الإيكور، معبد الإله إنليل في نفّر. ثم تذكر الأسطورة كيف أن الإله إنكي نزل إلى أرض ملوحا وباركها، ثم عاد الى دلمون وطهّر أرضها. ومع توالي أحداث الأسطورة ومرض إنكي في أعضائه الثمانية، تخلق نينخورساج، من أجل إنكي، الإلهين: نينتوللا إلهاً لمجان، وإنزاك إلهاً لدلمون.
وقد تباينت آراء الباحثين وعلماء الآثار حول مواقع ملوحا ومجان ودلمون تبايناً كبيراً، وكلٌ من زاويته. فقد جعل كريمر دلمون في إيران ثم في وادي السند. ووضع وينكلر وهومل مجان شرقي جزيرة العرب، وملوخا غربيها. وقُرنت مجان بالجرعاء في الإحساء، ووُضعت ملوخا إلى الجنوب منها في بلاد عمان. وجعل آخرون ملوحا، التي تقرن على الدوام بمجان ودلمون، عند مصب وادي السند، أو في الحبشة والصومال.
ولكن؛ وبمعزل عن تلك النظريات، أتت المكتشفات الآثارية الحديثة لتثبت أن دلمون ــ أو تلمون ــ هي جزيرة البحرين، بأدلّة مادية مهمة، ونقش مسماري عُثر عليه في الجزيرة، جاء فيه ذكر لـ"قصر ريمون عبد إنزاك إله دلمون من قبيلة أكاروم". أما مجان، فقد بات هناك اتفاق على أنها تمثل أرض عمان بعد اكتشاف مناجم النحاس وورشات التعدين في جبالها، وكذلك بعض النوعيات المحددة من الأخشاب ومقالع الحجر الصابوني. ولم يعد هناك من يتحدث عن أن مجان أو دلمون يمكن أن تقعا خارج منطقة الخليج، ومع ذلك، بقيت مشكلة ملوحا المرتبطة بمجان ودلمون برباط عضوي، قائمة، مع إصرار بعض الأوساط الأكاديمية على إبقائها أسيرة وحيدة في وادي السند.
تأسيس عُمانا
جاء تأسيس عُمانا ــ كمحطة تجارية ــ في العصر الهلنستي، في سياق حتمي اقتضاه تعاظم الدور الاقتصادي والتجاري لمنطقة الخليج العربي، مع افتتاح شبكة من الطرق البرية وصلت بين أطراف الجزيرة العربية الأربعة ومحيطها الخارجي، وأضافت المزيد من الأنشطة التجارية لطريق التجارة البحري العابر لمرافئ الخليج، والذي عرفته المنطقة منذ بداية العصر البرونزي، مطلع الألفية الثالثة قبل الميلاد. فشبكة الطرق التجارية البرية التي بدأت بالظهور منذ العصر الحديدي، في مطلع الألفية الأولى قبل الميلاد، مثلت قفزة حضارية هائلة للجزيرة العربية ومنطقة الهلال الخصيب، وساهمت في إغناء التفاعل الحضاري والتجاري بين شمال بلاد العرب وجنوبها، والذي أنتج فيما بعد الهوية العربية كما نعرفها اليوم.
وبناء على ذلك، يمكننا تقسيم تاريخ مملكة عُمانا إلى مرحلتين اثنتين: المرحلة الأولى، وتمتدّ من القرن الثالث إلى القرن الأول قبل الميلاد، وفيها شهدت المملكة أوج ازدهارها، وكان يحكمها ملك عماني، وسكّت عملتها الخاصّة. أمّا المرحلة الثانية، فتمتدّ من القرن الأول الميلادي إلى الربع الأول من القرن الثالث الميلادي، وفيها كانت بلاد عُمانا تتبع لملك كرك ميسان، ودليل ذلك إصدار الملك ميثيردات ابن الملك باكوروس عملة أطلق على نفسه فيها اسم ملك عمان، وهو ما ينسجم مع حديث صاحب كتاب "الطواف" من أنّ بلاد عُمانا كانت تتبع للفرس، على اعتبار أنّ مملكة ميسان العربية كانت ضمن الفيدرالية البارثية.
لقد بيّنت المسوحات الأثرية أنّ موقعي مليحة والدور تعرّضا للتدمير في منتصف القرن الثالث الميلادي، والذي يتزامن مع انقلاب مؤسّس السلالة الساسانية الفارسية على البارثيين، وتدميره، هو وابنه شابور الأول، الحواضر التجارية العربية في الخليج وحوض الفرات.
الملِكات الأربع
وتُثار منذ عقود في الأوساط الأكاديمية والبحثية المعنية بتاريخ العرب القديم أسئلة حول الملكات الأربع اللواتي كُتبت أسماؤهنّ بحروف آرامية على العملات الخليجية المضروبة في القرون الثلاثة ما قبل التأريخ الميلادي، والمسماة عملات أبعل/ أبيعال، وهنّ: بنت بجلان، وبنت لبش، وبنت نشيل، وبنت مشماش.
وطوال تلك السنوات، لم تقطع أيّ من الدراسات بهويّة هؤلاء الملكات، وإلى أيّ مملكة ينتمين، رغم اتفاق الجميع على أنهنّ من وسط وجنوب الخليج العربي.
لكن، منذ سنوات قليلة، بدأت مكتشفات وكنوز مدينة مليحة الأثرية في الإمارات تحلّ الكثير من الألغاز المحيطة بهذه الظاهرة التاريخية المحيّرة. فالحروف الآرامية التي كتبت بها أسماء الملكات على العملات الأبيعالية هي نفسها الحروف الآرامية المستخدمة في نقش مليحة المزدوج، وقالب سكب العملة الذي عُثر عليه في حصن مليحة يعدّ دليلاً على وجود سلطة قادرة على إصدار النقد، وهي حتماً سلطة ملكية مثبتة في نقش مليحة المزدوج العائد للقرن الثالث قبل الميلاد. وتُمكن أيضاً الإشارة إلى حديث المؤرّخ إيزيدور الكرخي، في القرن الأول قبل الميلاد، حين أثبت وجود ملك عماني يُدعى غوايسوس (قيس/ غيث) عاش 115 عاماً.
بنت بجلان
لقد أثارت هذه الأسماء نقاشات حامية في الأوساط البحثية، واتّفقت معظم الآراء على أنّ بنت بجلان هي ملكة عمانية بشكل مؤكّد. أمّا الملكات الثلاث الأُخريات، فوُضِعَت بشأنهنّ احتمالات بأن يكنّ من منطقة وسط الخليج، علماً أنّ منطقة وسط الخليج في أثناء فترة عملات أبيعال، في القرون الثلاثة قبل الميلاد، كانت تقع ضمن بلاد العمانيين، بحسب المؤرّخين والرحّالة الذين ذكرناهم. وكان اسم أبعال أو أبيعال، أيضاً، محلّ نقاشات لم تنته حتى اللحظة، إذ اقترح البعض أن يكون الاسم الأول للملكات الأربع، وهذا أمر غير معقول، نظراً لأنّ كلمة "أبيعال" أو "أبعال"، تشبه كلمة "بعل" بالآرامية على عملات طرسوس في كيليكيا، ولأنّ صورة الإله المسكوكة على العملة تشبه الإله زيوس اليوناني، والذي هو بعل عند الأنباط والتدمريين والحضريين.
ورغم أنّ العملة الوحيدة التي عثر عليها في مليحة والدور تحمل اسم "برت بجلن"، "أي بنت بجلان"، إلّا أنّ العملات الأُخرى التي تحمل أسماء ثلاث ملكات أخريات مسكوكة على النسق نفسه لعملة "برت بجلن"، وبالرموز ذاتها، وبالحروف الآرامية ذاتها المستخدمة في مملكة عُمانا، وهنّ برت لبش، وبرت مشماش، وبرت نشيل. ولذلك لا نجد أيّ حرج أو مانع علمي أو بحثي في نسبة جميع هذه العملات إلى مملكة عُمانا، هذا إذا تغاضينا عن أنّ البعثات الأثرية لم تعثر في منطقتي وسط الخليج العربي وجنوبه على مدينة كبيرة كانت معاصرة للحقبة السلوقية، وفيها قصر ملكي، وحصن حكومي يضمّ داراً لسكّ العملة، سوى في مليحة التي هي عاصمة مملكة عُمانا.
علم الآثار
وإذا عدنا إلى علم الآثار، فسنجد أن المكتشفات العائدة إلى القرون الثلاثة بعد الميلاد في موقع مليحة دلت على حدوث طفرة في البناء واللقيات منذ القرن الميلادي الأول، بالتزامن مع ازدهار طريق الحرير البحري. ففي هذه المرحلة، أُقيمَت الأبنية الكبرى في المدينة، ومنها القصر الذي كان على ما يبدو يخص الحاكم أو شخصاً بمرتبته، وكذلك الحصن الذي دلت المكتشفات على أنه مركز للإدارة والاقتصاد والحرف السيادية، وعلى رأسها سك العملة. ومع توالي المكتشفات، تتعزز القناعات العلمية الحالية التي ترى في مملكة عُمانا وعاصمتها في موقع مليحة أهم موقع يعود إلى العصرين الهلنستي والروماني في عموم منطقة جنوب الخليج.
وكانت عمليات التنقيب الأثري في مليحة بدأت مع بعثة عراقية في العام 1973 عملت في موسم دام ثلاثة أشهر، كشفت عن بعض أقسام مبنى ضخم ومتعدد الغرف، سُمّي بالقصر. وفي العام 1985، أجرت بعثة فرنسية مسحاً شاملاً بوساطة الأجهزة الكهرومغناطيسية لعدد من الروابي التي عُثر فيها على بعض الأبنية. وتنوعت في تلك الفترة الملتقطات السطحية، حيث شملت كسراً فخارية ومعادن وزجاجاً وقطع الآجر.
وفي موسم التنقيب الثالث في مليحة خلال الفترة من أواخر عام 1988 وبدايات 1989، استطاعت البعثة الفرنسية ــ المكونة من ميشيل موتن وريمي بوشارلات وبول كارزانسكي ــ من تحديد أبعاد المدينة البالغة مساحتها العمرانية كيلومترين× 2,5 كيلومتر، أي ما يعادل خمسة ملايين متر مربع، وهي مساحة كبيرة بكل المقاييس.
لُقى متميزة
وعلى الرغم من أن الكثير الكثير من اللقى الثمينة نُهبت من مليحة على مر العقود، نظراً لانتشارها على طبقة سطحية نسبياً لا تحتاج إلى الكثير من الحفر والتنقيب، فإن البعض منها نجا من تلك التعديات. ولعل اللجام الذهبي، الذي عُثر عليه مدفوناً مع حصان، أكثر هذه اللقيات لفتاً للنظر. فالحلقات الذهبية العشر، المزخرفة بشكل جميل، كانت تزين جانبي رأس الحصان وترتبط فيما بينها بحلقات برونزية مذهبة وأربطة جلدية تحللت مع مرور الزمن. كما عُثر في مقبرة قديمة على تمثال برونزي لرجل يمسك بطير، هو واحد من أرقى العينات المعدنية، فالتنورة التي يلبسها الرجل تعطينا فكرة عن زي الرجال في الخليج خلال تلك الفترة، وهو يشبه إلى حد كبير زي سواحل اليمن ومنطقة القرن الأفريقي حالياً. ووجود هذا التمثال في مقبرة يوحي بأنه ذو علاقة بالطقوس والشعائر. وعُثر على عدد من الأواني ذات الصنابير، مطلية بالفضة والمشغولة على شكل رأس حصان أو ثور. وهي آنية خاصة بطقوس الإراقة الشعائرية. وتعدُّد هذه الأواني يشير إلى دور الدين في حياة سكّان مليحة، وربما يشير إلى وجود أكثر من معبد في المدينة، بعضها معابد منزلية على شاكلة ما كان سائداً بكثرة في مدينة دورا أوروبس على ضفّة الفرات.
النقوش الآرامية
ومن المكتشفات المهمة في مليحة: النقوش العربية القديمة بخطيها الآرامي والمسند، وأهم النقوش الآرامية هو النقش المقبري المزدوج لِكاهن ملك عمان، ويدعى عمود بن جر بن علي، وهو نقش مؤرَّخ في العام 90 من التأريخ الإغريقي، والذي يعادل عام 223 قبل الميلاد تقريباً. كما عُثر على نقوش مكتوبة على الفخار بالآرامية الدولية المعيارية، التي نجدها في الكثير من مواقع شمال الجزيرة العربية ووادي الرافدين وبلاد الشام. إضافىة إلى نقوش أخرى على قطع من البرونز، وعملات. وعُثر أيضاً على نقوش مقبرية بالمسند، منها النقش السابق مزدوج اللغة، ونقش مقبري آخر بالمسند، وبعض النقوش المعدنية والفخاريات والأواني المرمرية. وقد تميزت هذه النقوش بلغة وأسماء عربية خالصة، شأنها في ذلك شأن كتابات المسند التي عُثر عليها في منطقة القطيف في السعودية، والتي اصطُلح على تسميتها "الكتابات الإحسائية"، ولكن ثمة نقوش عُثر على كِسَر صغيرة منها ربما تشير إلى كتابات جنوبية خالصة.
* كاتب وباحث سوري فلسطيني