- يُشدّد ماركو عمّار واحميدة عياشي على أهمية العمل الثقافي والأكاديمي في الحفاظ على الرواية الفلسطينية وتعزيز المقاطعة الأكاديمية والثقافية ضد الاحتلال.
- علاء خالد وبثينة العيسى يركزان على كيفية استخدام الثقافة لتحرير الوعي وتعزيز الهوية الفلسطينية والعربية، بينما يُشير فادي أبو ديب إلى الحاجة لاستراتيجية ثقافية عربية شاملة لمقاومة الرواية الصهيونية.
في وقت يرتكب فيه كيان المستعمرة الصهيونية جرائم إبادة مستمرّة في فلسطين، تُمكن مقارنتها بأكبر فظائع القرن العشرين، بغطاء أميركي وأوروبي، بعد هزيمته العسكرية أمام شجاعة الإنسان الفلسطيني المقاوم في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، والتي رأت فيها الشعوب العربية بشائر تحرير وحرية؛ ماذا يمكن أن تفعل الثقافة العربية للقضية الفلسطينية؟ كيف تُصبح الثقافة أداة تحرُّر وتحرير للأرض والإنسان؟ وكيف يمكن أن تقاوم الثقافة العربية هيمنةَ المشروع الصهيوني على العالم العربي من خلال التطبيع والترسانة العسكرية والسيطرة على الإعلام والدعم الأميركي والغربي، وأي أدوات نمتلك؟
شاركنا في "العربي الجديد" هذه الأسئلة مع كتّاب ومثقّفين عرب، في محاولة تفكير جماعي في ما يمكن للثقافة العربية أن تفعله الآن - وفي لحظات مفصلية قادمة - في طريقها إلى التحرّر والعدالة الاجتماعية وإنهاء الوقائع الاستعمارية والاستبدادية.
نجوان درويش / القدس المحتلة
ماركو عمّار: كلُّ واحد منّا بشمعته الصغيرة
في السنوات التي عملت فيها ناشطاً متطوّعاً، أتذكّر بوضوح كيف أثّر عليّ المثل الصيني "أن تُضيء شمعة خير من أن تلعن الظلام" الذي استخدمته "منظّمة العفو الدولية" شعاراً لحملاتها، وقد أعطاني ذلك الشعار الشجاعة اللازمة للإيمان بأنّ جهودنا لـ تحرير السجناء السياسيّين ستجلب ثمارها في وقت ما.
تُولّد الظروفُ الشاقة التي يعيشها اليوم الشعب الفلسطيني في غزّة والأراضي المحتلّة شعوراً باليأس والهجران لا تُمكن تهدئته. الدعم الذي تقدّمه الولايات المتّحدة والغرب لأيّ مبادرة صهيونية بحجّة أنها إجراء أمني مشروع ليس إلّا تعزيزاً للمخطّط الصهيوني للتطهير العرقي الذي لم تنجح "إسرائيل" في إكماله بعد. وقد تحوّل اتهام "معاداة السامية" إلى أداة قانونية لكمّ الأفواه ومنع أي شكل من أشكال الاحتجاج الاجتماعي الذي يُطالب بحقوق لا يزال الشعب الفلسطيني يُحرم منها، كما أنّ التفاوت السياسي في المفاوضات والتفاوت العسكري، الذي يتبيّن في كلّ مرّة من خلال التدمير وإحصاءات الخسائر البشرية، يُحبط كل أمل.
تشقّقات صغيرة لكنها تُسقط الجدران على المدى الطويل
على الرغم من كل ذلك، فقد تغيّر شيءٌ ما في السيناريو الجاري. منذ مدة طويلة والرأي العام الدولي لم يعُد قائماً على معلومات مُلتوية مُتحيّزة. على الرغم من أنّ الثقافة المُهيمنة لا تزال تبيع وتُوزّع روايتها عبر قنوات الإعلام الرسمية وغير الرسمية في جميع أنحاء العالم، إلّا أنّ الطابع الديمقراطي للفضاء الرقمي جعل حرب المعلومات صراعًا أكثر توازنًا بكثير مما نتصوّر. لا شكّ في أنّ إشاعة الأخبار الكاذبة والمُفبركة باتت عملية هيّنة، لكن في نفس الوقت، بات حجْبُ الحقيقة عملية شبه مستحيلة.
هناك رواية أُخرى للتاريخ لم تعُد قابلة للرقابة أو للتفاوض. هناك مجتمع مدني متضامن متّحد يتشارك في نفس القيم لا يستطيع أحد تضليله، سيولَد الوعي أينما كان. وهناك ملايين من الأشخاص الذين لا يتحمّلون الظلم ولا يعلمون شيئًا عمّا يحدث في فلسطين اليوم. في الوقت الحالي، قد يبدو وكأن هذه هي تشقّقات صغيرة في النظام أو تفاصيل تافهة غير جديرة بالملاحظة، لكنها ستُسقط الجدران على المدى الطويل.
إنّنا أصغر من أن نرى التغيرات الكبيرة التي ستحصل. ما يجب على كلّ منّا أن يقوم به هو ضمان انتشار رواية مضادّة. يجب ألّا نتوقّف أبداً عن سرد الحقيقة. يجب علينا أن نُعزّز المقاطعة الأكاديمية والثقافية. يجب أن نُبقي الشموع مضاءةً وأن نُسلّط الضوء على الحقيقة، كلُّ واحد منّا بشمعته الصغيرة. ويلٌ لمن يلعن الظلام!
* موسيقي ومترجم من إيطاليا ولبنان
احميدة عياشي: إعادة الاعتبار للفكر التحرُّري
1
في البداية لديَّ ملاحظتان؛ الأُولى: ما الذي نعنيه اليوم بالثقافة العربية في ظلّ التناقُض والصراع والخلاف العربي وسيطرة السياسي على الثقافي؟ والثانية: هل نمتلك الشجاعة، كنُخب، لخوض معركة تحرير العقل العربي السياسي والثقافي من التلوّث الانهزامي الذي ما فتئ يتكرّس طوال العقود المتتالية لهزيمة 1967، وخيانة روح حرب 1973، وخدعة خطاب "السلام" الذي دشّنته رحلة محمّد أنور السادات إلى "الكنيست" وكادت أن تتحوّل إلى عقيدة يصعب الخروج عليها؟
ما حدث على الساحة العربية خلال النصف الثاني من القرن الأخير غيّر كثيراً من ملامح العالم العربي القديم، وغيّر من موازين القوى، وأعاد صياغة الكثير من الأسئلة التي كانت مرتبطة بالهويات العربية والتراث ووجهات الحاضر والمستقبل بشكل غير مسبوق، ما جعل الكثير من العقائد الجديدة المتوارَثة تحتضر بشكل عنيف. وكانت معظم المحاولات التي جرَّبت التجاوز باءت في أغلبها بالفشل أمام طغيان الشعبويات في ظلّ الإخفاق المتجدّد لصناعة النهضة، والتراجُع المخيف الذي سجّله العقل النقدي أمام لاعقلانيات "العقل العربي المتشظّي" في التعاطي مع مسألة التحرُّر القومي المركزية، وهي القضية الفلسطينية.
لقد جرى التخلّي عن القضية الفلسطينية ثقافياً، واختُزلت في المسعى السياسي الخاضع للحسابات السياسية التي تُمليها لعبة التوازنات وموازين القوّة والأمزجة السياسة، وجُرّدت من كلّ معانيها الرمزية والإنسانية، وجرى احتكارُها من قبل الساسة واللاعبين الكبار في لُعبة الأمم، وبالتالي أُبعدت الثقافة كلاعب أساسي في صياغة الرؤية وصناعة الخطاب، ولم تعُد إلّا ديكوراً.
ولذا، فإنّ الثقافة العربية مطالَبة بإصلاح نفسها، أوّلاً حتى تكون قادرةً على أن تُؤدّي دوراً فاعلاً لصالح القضية الفلسطينية، يتمثّل في تحرير القضية من كلّ الخطابات المُثبِّطة التي علقت بها، والانتقال بالقضية الى مرحلة الأسطورة الإنسانية، لأنّها تُمثّل الحقيقة في التاريخ وفي سيرورة الحاضر. والمستقبل الإنساني المشروط بمعرفة هذه الحقيقة الداحضة للحقيقة الاصطناعية، "الحقيقة" الإسرائيلية المبنيَّة على الكذب والتضليل الكبير المدعوم بجهاز الدعاية الذي يمتلكه اليمين العبري/ الأورو- مسيحي العنصري الفاشي.
2
تُشكّل الثقافةُ روحَ الهوية المتحرّكة والمُتجدّدة والتناغُم مع حركة التاريخ. وبالتالي، فهي العنوان الحقيقي للسيادة ومحرّك التحرُّر الدائم ذاته، وليست مجرّد أداة. ومن هنا فهي تربط بين الإنسان والأرض والوجود وتمنح المعنى الشامل في معركته الكبرى في تحقيق الحرية التي لا يُمكن أن تنفصل عن الكرامة؛ حرية النقد، وحرية العيش، وحرية الخلق، وحرية التعبير والكلام، وحرية الاختيار، وحرية ابتكار العقائد وتبنّيها والدفاع عنها، كما أنّ هذه الثقافة لا تقتصر على الأشكال والتعابير التقليدية والمتعارَف عليها، بل تشمل كلّ السلوكات والأنماط الهامشية والتمظهرات التي تُفرزها التطوّرات والقطائع في تيار الأزمنة المتراكمة داخل الجماعات الوطنية والمجموعات الدينية المتعدّدة داخل الوحدة القومية، ما يساعدها على الانخراط في عملية الحوار الذي يمنحنا القوّة على تحقيق استقلال الذات الجماعية وتكاملها مع الذوات الأُخرى المبنية على العدالة والحرية.
المقاومة بحاجة اليوم إلى لغة جديدة وفكر مغاير وعقل عملي
لا حرية ولا تحرُّر مع سيادة الجهل. لذا فتعميم المعرفة النقدية والعملية والتحرُّر من الغيبيات السياسية أيّاً كان شكلُها هو طريقنا لنجعل من الثقافة فعلاً يساعدنا على تحرير الانسان من أوهامه، ومن الأوهام المفروضة عليه بالقوّة والتسلّط والهيمنة من قبل إمبريالية الإعلام والوسائل الجديدة للدعاية.
3
المقاومة بحاجة اليوم إلى لغة جديدة وفكر مغاير وعقل عملي، وذلك لا يمكن أن يكون عملاً فردياً، وإنّما يُمكن أن تأخذ المبادراتُ الفردية معنىً حقيقياً عندما يكون هناك دور للمجتمعات الأهلية في البلدان العربية، وقد يكون ذلك بإقامة شبكات متضافرة ومتعاونة، يتركّز عملُها عبر مراكز بحث حقيقية، تكشف الوجه الحقيقي لأعداء الشعب الفلسطيني من دول، ومنظّمات، وشخصيات، وخطط، وأساليب، وثقافات... إلخ، ومواقع إلكترونية، وسينما، ومسرح، وأشكال تعبيرية ثقافية شعبية، تتوجّه إلى قوميات وجنسيات وثقافات أُخرى صديقة، وخصمة، وعدوّة، وخلق تحالفات ثقافية، ودبلوماسيات ثقافية، ودعم مثقّفين ومفكّرين ونشطاء ثقافيّين وإعلاميّين من أصدقاء القضية الفلسطينية وقضايا التحرّر، وإعادة الاعتبار لفكر التحرُّر العالمي الذي تعرَّض منذ نهاية الحرب الباردة لعملية طمس وتشويه، وتكريم كلّ من تعرّضوا للمضايقات والتهميش من مثقّفين نقديّين وعلماء ناضلوا ضدّ الفكر الصهيوني والعنصرية الفاشية من داخل "إسرائيل" وخارجها، والاعتناء بثقافة الطفل القائمة على فكر التحرُّر، وتجاوُز تلك التقسيمات المانوية التي سادت العقل العربي اليساري أو غير اليساري والسعي لإعادة كتابة جديدة لتاريخ المنطقة العربية من زاوية الفكر التحرُّري.
* كاتب ومسرحي من الجزائر
علاء خالد: من داخل غرفة الأصوات المعزولة
في مثل هذه الأوقات الكارثية، يتنامى الإحساس بالضآلة أمام عنف ما يحدث، وأمام صمت الجماعة الإنسانية الكبيرة التي ننتمي إليها جميعاً. ينسحب الكلام، على صدقه، إلى غرفة الأصوات المعزولة، المنطقة التي تكتم فيها الأصوات وردود الفعل، داخلنا وداخل ثقافتنا أيضاً. في هذه الغرفة الرمزية تتآزر مكبوتاتنا النفسية، كأفراد وكثقافة، وتكون ستاراً يحجب النظر بوضوح لأنفسنا، كأفراد وكثقافة.
الكوارث تُعيد طرح الأسئلة القديمة والصحيحة التي أتت من موقع الذات المجرَّدة في مواجهتها مع الآخر، وأهمّية هذه الكوارث، على مأساويتها، أنّها تُعيد طرح العلاقة مع الذات ومع الآخر معاً، كونه جزءاً من الذات، ومختلفاً عنها في آن.
من داخل هذه الغرفة، أكتب وأنظر إلى الخارج، كمثقّف مصري أو عربي أو فلسطيني، أحاول أن أتجاوز عزلتي الاضطرارية، وعزلة ثقافتنا المختارة. لا أرى أي حلول مؤقَّتة لمعالجة الكارثة، كلُّها حلول طويلة الأمد، وأهمُّها وأكثرها عمقاً وغوراً في النفس: ردّ الاعتبار إلى هذه الثقافة التي ننتمي إليها، ليس بالتعالي أمام أيّ ثقافة أُخرى، ولكن ربما نحتاج إلى تجاوُز أيّ سقف يؤكّد "دونيّتنا"، وتجاوُز أيّ نظرة تدفعنا إلى إنتاج وتثبيت هذه الصور.
أعتقد أنّ هذا التجاوز يُمكن أن يتمّ بفحص هذا المكبوت الرمزي، واللغوي، والنفسي، والديني، الكامن في غرفة الأصوات المعزولة، للوصول إلى نقطة نفسية جديدة، وصورة عن الذات فيها نوع من الاتساق والتصالح والعافية، وتضييق الفراغات داخلها، وبينها وبين الخارج، ربما تكون بداية للتساوي مع المستقبل وما يحمله.
بالإضافة، طبعاً، لاستعادة الأرض والمكان/ الوطن، الذي تتمّ فيه رحلة الاستعادة بالنسبة إلى الفرد والجماعة الفلسطينية، وهي النقطة الجوهرية التي سيبنى عليها.
بحاجة إلى وعي نقدي منفتح على حركة الحياة وتحوّلاتها
ربّما لن يتولّد هذا التجاوز إلّا بوعي نقدي منفتح على حركة الشارع والحياة وتحوّلاتها، ومحاولة وضع ولو حدّ أدنى من مقوّمات تنوير عربي، بعيداً من خطوات التنوير السياسي القديم الذي فشل، وأوّلها ألّا تكون الثقافة تابعة للمشروع الأخلاقي السياسي، وطموحه، بل الانفتاح على كلّ قضايا الوجود من دون تفضيل، وتشجيع هذا الانفتاح، سواء بشكل مؤسَّسي، أو كطموح شخصي من أفرادها.
هذا الوعي النقدي لن يتأكّد بشكل فردي، لكنّ هناك دوراً للمثقف العضوي، بالنظر بتعاطف إلى مجتمعاتنا الداخلية التي نعيش فيها، وأن نُنمّي فيها ما تعلّمناه من قيم الحوار والتعدّد، وأن نكسر جدار النخبوية ومسبّباتها الرأسمالية وأعراضها الجانبية من انعزال ودونية/ تعال.
أهمّية حضور جمهور حقيقي، للمثقَّف، بيننا وبينه مشترك إنساني ورمزي، يُمكن البناء عليه. بمعنى آخر، أهمّية أن يكون لكل منا آخر قريب من حوله، يتبادل معه الحوار ونقاشات الحياة، ولا نتعالى على أي إنسان/ جماعة، لأنّ الثقافة، على تعقيدها، تقوم على حساب المشاعر، واتجاه حركتها وعدالة مسعاها، حتى ولو اضطررنا إلى تغيير بوصلة الذات.
أيضاً الدفاع عن مفهوم الحياة وحكمتها، ليس في الأدب فقط، بل في كل ما يقف ضدّها. فعوامل ضعف أو دونية أيّ ثقافة، أمام ثقافات أُخرى، كما يقول تودوروف؛ كامن في هيراركيتها (تراتبيتها)، والفوارق الطبقية بين أعضائها، وتحلُّل مصادر قوّتها مع الوقت.
لقد تحوّل اختلافنا عن الآخر إلى سلاح ضدّ أنفسنا، ولم يتحوّل إلى نوع من التعدُّد. من المهمّ أن نَخرج من سباق الثقافات، أو صراعها، وليس بالضرورة أن نقيس أنفسنا على مقياس ثقافة أُخرى، وليس من الضرورة أيضاً أن يكون لنا سؤال جذري كالثقافة الغربية، لكلّ ثقافة جذريتها، وتابوهاتها.
كل هذه الإزاحات السابقة ربما تُفضي إلى مسار جديد ومختلف للثقافة، وللذات، ومن هذا الاختلاف يُمكن بناء وعي نقدي جديد من دون حروب أو حساسيات، بمثابة لحظة تنوير مختلفة سيكون لها "آخر كوني" يعيش نفس ما نعيشه وأزمته مشابهة لأزمتنا، وليس "الآخر القديم" الذي لم يُقدّر اختلافنا، وقام باستغلال ضعفنا أو "دونيتنا".
ربما هناك أفكار متناقضة أتناولها في هذا النص الصغير، ولكن أرى أنّ هذا التناقض له وجه آخر حيوي، أنه يحمل تاريخاً للأفكار وتحوّلاتها وما يُؤثّر منها على الذات، ويبني لها مواقفها واختياراتها. تلك الذات الكلّية، أو ذاكرتنا الجماعية الحيّة، التي تحاول أن تصفّي تناقضاتها عبر صدامها، وعبر دخولها في سياق جماعي يستبعد ويقرّب ويصنع من التناقض حلولاً، أو مداخل جديدة، والأهمّ أن يكون هناك مداخل نرى بها المستقبل الغائب عن حياتنا وربما عن حياة العالم في تلك اللحظة الكارثية.
* شاعر وكاتب من مصر
بثينة العيسى: لا يساورني الشك
هذه معركةٌ تُخاض على أكثر من صعيد، أحدُ أهمّ مستوياتها هو اللغة. كلّما ساورك الشكّ بشأن محورية وجوهرية وتأثير قوانا الناعمة، تذكَّر كيف برّرت غولدا مائير السردية الصهيونية عن "شعبٍ بلا أرض لأرض بلا شعب"، بقولها بأنّه ليس هناك شعب فلسطيني لأنه ليس هناك أدب فلسطيني. تكذب طبعًا، ما الجديد؟
ما يحدث في منصّات التواصل الاجتماعي، وفي بعض البرامج الحوارية (انظر؛ حسام زملط، ومحمد حجاب، وباسم يوسف، وغريس بليكلي، وغيرهم) هو رفضٌ قاطع للقبول بسردية العدوّ، أو حتى الفرضيات الضمنية الخرساء التي لا تُقال صراحةً، بسبب الطريقة المعتورة في طرح الأسئلة، وبتر السياقات، والتنكّر للتاريخ. لم يعُد الإعلام الغربي قادرًا على المناورة، لأنَّ كلّ معركة ضدّ فلسطين هي معركة ضدّ الحقيقة، وضدّ التاريخ، وضد العقلانية، قبل أن تكون معركة ضدّ الإنسانية.
لنتخيَّلْ علاقةً بين شخصين، علاقة مبنية على الكذب - ولنفترض بأنّها أكاذيب تمّ قبولها وتصديقها وتسويقها – لكنها تبقى أكاذيب.
لا تملك العلاقات والكيانات المبنية على الكذب أيّ فرصة للاستمرار، فما بالك بمؤسّسة، بقوّة عسكرية، بكيان سياسي قائم على الكذب؟ لهذا السبب وحده، لا يساورني الشك بأنه كيان زائل، وأنها مسألة وقت، وأنّ كلّ ما يفعلونه هو محاولة بائسة للمدّ من عمره الافتراضي. وبتعبير الشهيدة شيرين أبو عاقلة: بدّها طولة نفس.. خلّي المعنويات عالية.
* كاتبة من الكويت
فادي أبو ديب: وضْعُ الصراع في سياقاته
في الوضع الآني المتمثّل بالعدوان الإسرائيلي الوحشيّ على قطاع غزّة، والذي يُنذر بتنفيذ خطّة كانت مبيَّتة منذ زمن؛ وهي تهجير الفلسطينيّين خارج أرضهم وإحداث نكبة أُخرى، تقف الثقافة العربية، ككناية عن العاملين في الحقل الثقافي، ضمن الجدول الزمني الحالي والإمكانيات المتاحة، أمام مسؤولية الاستمرار في كشف ما يحدث على الأرض وإيصاله إلى العالم كلّه، خاصّةً أنّ جزءاً كبيراً من وسائل الإعلام العالمية يغيّب الكثير؛ ففي الأيام الأُولى لعملية "طوفان الأقصى"، مثلاً، غاب ذِكر وجود عملية عسكرية على ثكنات ومراكز الجيش الإسرائيلي في منطقة غلاف غزّة عن وسائل إعلام عديدة لم تذكر إلا تعرُّض بعض الجنود الإسرائيليين إلى "إطلاق نار".
في نفس الوقت، لا يجب على المثقف العربي أن يشعر بوجوب التبرير الأخلاقي لكلّ فِعل يحدث على الأرض من طرف المقاومين، بل عليه، وهنا المهمّة الأصعب، أن يؤكّد دائماً السياق الأوسع والتاريخي للصراع، وأن يقف بصلابة أمام محاولات حرف النقاش والأخبار نحو جوانب جزئية أخلاقية وجمالية محضة. والإنسان المثقّف صاحب الفكر هو الأقدر على رؤية الصور الكلّية وترتيب جزئياتها ضمن أولويات وثانويات، مركزيات وطرفيات، وشرحها بطريقة صادقة لا تكذب ولا تُدلّس ولا تغفل التفاصيل، ولكنها لا تسمح أيضاً بالانجرار نحو التفاصيل الصغيرة التي تطمس السياق الأوسع والصورة الكاملة.
مسؤولية كشف ما يحدث على الأرض وإيصاله إلى العالَم
ولكي تكون الثقافة أداة تحرُّر وتحرير، يجب أن تعمل على الإنسان والأرض معاً، لأنّ الإنسان مشروع مستمرّ لا ينتهي، والأرض حامل لهذا الإنسان. من دون الأرض لا وجود للإنسان إلّا كظاهرة عابرة لا يُمكن لها أن تُحقّق التراكم الثقافي والحضاري... من دون الإنسان لا حياة بالمطلق. فالثقافة تُحرِّر الإنسان وتتحرَّر هي نفسها به. لا أستطيع إلّا أن أرى العلاقة الدائرية بين الإنسان والثقافة؛ فالإنسان يتحرّر بالثقافة من الخوف ويُحقّق من خلالها وجوده الشخصيّ، وهو أيضاً مسؤول عن تحرير الثقافة من الخوف المتراكم فيها. لا يُمكن الحديث هنا عن سابق ولاحق، وإلّا أصبحنا نقف أمام معضلة "من أوّلاً البيضة أم الدجاجة؟"، ولكن المهمّ أن نؤكّد التشابك الحتمي بين مصير الإنسان ومصير الثقافة. لا يُمكن لإنسان غير حرّ أن يُحرّر الأرض ويصنع منها وعليها شيئاً. ويمكن القول إنّ فعل المقاومة في العموم هو فعل إيمان بالذات من نوع ما، مهما كان منغرساً في قيم دينية أو ما ورائية. والأمل دائماً ينظر إلى أن يزيد إيمان الإنسان بذاته من دون أن يحطّم كلّ قيمة عليا تتجاوز ذاته، كما حدث في كثير من نواحي الثقافة الحداثية في الغرب.
أمّا مواجهة الإعلام الصهيوني المدعوم من الإمبراطورية العالمية، فهي مسألة عمل جبّار على مستوى وطني. مشاريع المواجهة الكبرى هي مشاريع وطنية قومية بامتياز، لأنها مشاريع استراتيجية طويلة الأمد تحتاج إلى إنفاق وتخطيط متواصلَين. وهنا يجب أن تكون الثقافة العربية مشروعاً ذا أولوية للدول العربية؛ فالثقافة العربية تحتاج إلى أجيال جديدة تحملها، أجيال تتعلّم في مدارس جيّدة تعتني بالثقافة العربية، باللغة والأدب والفكر، وتُشجّع على الإبداع وعلى الخروج من دائرة التقليد التكراري من جهة، ودائرة التبعية للخارج من جهة أُخرى. يجب أن تتحوّل الثقافة العربية إلى مشروع حياة خلّاقة، ومن دون هذا لن يرى العالمُ الثقافةَ العربية إلّا بوصفها، في أحسن الأحوال، حاملاً لتقاليد قديمة مثيرة للفضول، تماماً كما يُنظر إلى الثقافة الهندية القديمة المكتوبة بالسنسكريتية.
إنّ جزءاً كبيراً من الدعم الشعبي لـ"إسرائيل" حول العالم لا يستند إلى أسسٍ دينية صهيونية، بل على اعتقاد الكثير من الناس العاديين بأنّ "إسرائيل" دولة عصرية وحديثة ومنتجة للثقافة والجمال، ويمكن لهم قضاء عُطَل رائعة فيها! وعلى الثقافة العربية أن تُظهر للعالم أيضاً أنّها ثقافة عصرية.
يجب أن يُنفق على الترجمة وعلى الصحف والمجلّات العربية الناطقة بلغات أُخرى - هذا عملٌ يجب أن تدعمه السفارات في الخارج (هل أسمع قهقهة ساخرة؟)، وينبغي أن يكون هناك حضورٌ عربيّ يمنح المراقب الخارجي شعوراً بوجود ثقافة لا تستحقّ الاكتشاف فحسب، بل تستحقّ الدفاع عنها.
ولكن يجب الاعتراف بأنّ القوّة الثقافية لا تنفصل عن القوّة السياسية والعسكرية و/أو القوّة الاقتصادية المُنتجة؛ ففي الغالب، يتماهى الناس مع الأقوياء ذوي الحضور المثير للإعجاب الذي يفتح لهم آفاقاً لوعي مختلف.
* شاعر وكاتب سوري مقيم في السويد