في ظلِّ أخبار وأجواء الإبادة التي تخيّم على غزّة، انعقد ملتقى "أريج" السادس عشر في عمّان، الذي جمع مئات الصحافيين العرب وغيرهم من حول العالم. اختارت "أريج- إعلاميون من أجل صحافة استقصائيّة" ألّا تؤجل ملتقاها بسبب العدوان على غزّة، وأن تجمع الصحافيين في هذا الوقت تحديداً، وتخصّص عدداً من الجلسات للحديث عن غزّة، وأخرى عن الصحافة وتغطيتها، إذ اعتبرت مديرة الملتقى روان الضامن أنّ عقد التظاهرة في هذه الظروف صرخة وتحدٍ في آن معاً.
عند دخول القاعة الرئيسيّة لجلسات الملتقى، تُقابلك صورٌ لعددٍ من شهداء المهنة الذين قتلهم الاحتلال في فلسطين ولبنان خلال الشهرين الماضيين. يبدو داخل القاعة كأنّه ممرٌّ عبر مجزرة جماعيّة بحق الصحافيين. اختار المنظمون صورةً ضخمةً لمدينة غزّة وشاطئها قبل التدمير والاجتياح، وقد تموضعت خلف المنصّة المركزيّة لجلسات الحوارات في القاعة، بحيث بدا المتحدثون كأنهم جالسون على شواطئ غزّة الجميلة.
جماليّة صورة غزّة المعلّقة وإدراك أنها مدينة مُدمرة خلقا عند الحضور نوعاً من التذكير المستمر بالمجزرة الحاصلة خلال أيام الملتقى. لم يكن من السهل على ابن غزّة، المخرج والصحافي أشرف مشهراوي، أن يخفي دموع الفقد لمدينته وذكرياتها في حفل الافتتاح، فصاحب الوثائقي "غزّة دروع بشريّة" له العديد من الأفلام التي وثّق فيها تاريخ غزّة وحياتها الاجتماعيّة والحروب عليها.
كشف انحياز الغرب في تغطية العدوان على غزّة
خُصص جزءٌ كبيرٌ من الافتتاح لأصوات الزملاء الصحافيّين من داخل القطاع المُحاصر. في كلمته المصوّرة، أرسل الصحافي وائل الدحدوح، خلال ساعات انتهاء الهدنة وعودة الحرب يوم الجمعة، عدداً من الرسائل، أبرزها هول العدوان الحالي على المدنيّين والصحافييّن، مقارنةً بغيره من الحروب السابقة في غزّة. واعتبر أنَّ الصحافي الفلسطيني أصبح أمام واقعٍ جديدٍ لم يعد له فيه أيّة حصانة أو حماية أو دعم لوجستي، بل صار مستهدفاً بشكلٍ مباشرٍ. الأمر الذي أدّى إلى استشهاد أكثر من خمسة وستين صحافياً، غير عدد الجرحى منهم وتدمير المقارّ الإعلاميّة.
وأشار الدحدوح إلى أسلوب جديد يتّبعه الاحتلال متمثلاً في استهداف عائلات الصحافيين في المناطق "الآمنة"، كما حصل مع عائلته وآخرين، بهدف الإسكات والانتقام.
الملتقى الذي حمل عنوان "التعاون العابر للحدود في عالم منقسم" جاء أيضاً، بحسب المنظّمين، في ظلِّ عالمٍ منقسمٍ يُسيطر عليه الإقصاء وخطاب الكراهية ومحاباة الفساد والظلم، حيث تلعب الحدود والتأشيرات والممارسات المناقضة لحقوق الإنسان عراقيل أساسيّة في طريق المساءلة والشفافيّة والديمقراطيّة.
شملت فعاليات الملتقى جلسات حواريّة متنوّعة تهدف إلى تعزيز العمل المشترك وتبادل الخبرات والمهارات والتضامن والدعم، سعياً لكشف الفساد في العالم العربي. وخُصصت جلسات للتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي وتدقيق المعلومات ومواجهة التضليل والتحقيق في جرائم الحرب، وأخرى عن السلامة والنوع الاجتماعي والبيئة وقضايا الإعاقة وغيرها.
كما عُقدت جلسةٌ خاصّة لمكاشفة تغطية الإعلام الغربي للعدوان على غزّة تحت عنوان "هل ما زال الجنوب العالمي يثق بالتغطية الغربيّة بعد غزّة 2023؟". تحدثت فيها مجموعة من الصحافيين والفاعلين الذين قدّموا دلائل على انحياز وتواطؤ تغطية العديد من المؤسّسات الإعلاميّة المركزيّة في الدول الغربيّة، من خلال شكل التغطية والمصطلحات المستخدمة والمساحة الإنسانيّة الكبيرة المخصّصة للرواية الإسرائيليّة مقابل الفلسطينيّة. وطرحت الجلسةُ عدداً من الأسئلة حول دور الصحافة الاستقصائيّة في مواجهة هذه التغطية والتزييف للحقائق في بعض الأحيان، أو ممارسة الرقابة الذاتية والمعايير المزدوجة عندما يتعلّق الأمر بفلسطين.
خُصص جزءٌ كبيرٌ من الملتقى لأصوات الصحافيّين من داخل القطاع المُحاصر
ورغم أنَّ التضامن مع غزّة كان حاضراً طوال التظاهرة، إلّا أن كلمة ضيف شرف الملتقى، الصحافي الأيرلندي جيري موريارتي، التي ألقاها في حفل الاختتام مساء أمس الأحد، كانت مخيبة للآمال، وأثارت ردود فعل غاضبة بين الكثير من المشاركين، متسائلين عن سبب اختياره ضيفَ شرف للملتقى.
المحرر السابق لصحيفة "ذا آيرش تايم" قدّم كلمة سياسيّة عما سمّاه "الصراع" بين الفلسطينيّين والإسرائيليين، محاولاً إسقاط تجربة بلاده، التي عاشت صراعاً ثم سلاماً مع بريطانيا، على ما يعيشه الفلسطينيون، معتبراً أنه من الضروري تجاوز وجود "قيادات متطرفة" من الطرفين، وداعياً إلى عودة الأمل الذي تشكّل في "اتفاقية أوسلو"، متناسيًا أو جاهلاً ما كان ثمنها.
وكان من اللافت عدم ذكر ضيف الشرف أي كلمة عن المآسي غير المسبوقة التي يعيشها الغزّيون هذه الأيّام أو الصحافيون في غزّة، أو ذكر كلمة الاحتلال الإسرائيلي، متجاهلاً أنّه يتحدّث أمام صحافيين من العالم العربي وفي بلد عربي، كما أنّه تجاهل بشكل وقح الكلمات التي سبقت كلمته والتي أشارت إلى الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال في غزّة. وبدت كلمته كأنّها نموذجٌ عما انتقده المتحدثون في الجلسة السابقة عن الإعلام الغربي وخطابه تجاه فلسطين.
وفي ختام الأمسيّة، وُزّعت جوائز مسابقة "أريج" للسنة الرابعة عشرة، إذ تقدم للجائزة 149 تحقيقاً استقصائياً من 16 دولة عربيّة. ونال الصحافي المصري رمضان يونس الجائزة الذهبيّة عن تحقيقه "رحلتي السرية لكشف الأطباء الذين يستغلون المرضى مثلي". أمّا الجائزة الفضيّة فكانت لتحقيق "سجناء التدوير تعطيل ممنهج لمجرى العدالة في مصر" للصحافي إيزيس قاسم، وهو اسم مستعار. وذهبت الجائزة البرونزيّة مناصفة بين تحقيقين، هما "فلاحو محافظة القصرين بتونس يجنون الفتات مقابل مرور خط أنابيب الغاز بأراضيهِم" للصحافية جيهان نصري، و"أملاك مسلوبة.. كيف يستولي نافذون على عقارات المغتربين بالقامشلي؟" للصحافي حمزة همكي. وأعلنت "أريج" عن إطلاق عدد من المشاريع والزمالات المخصّصة للصحافيين في السنوات القادمة.