تقف هذه الزاوية مع مترجمين عرب في مشاغلهم الترجمية وأحوال الترجمة إلى اللغة العربية اليوم. "حركة الترجمة رهينة مُبادرات مُتفرِّقة. فغياب التنسيق المنهجي بين هذه المُبادرات يجعلها، على أهميّتها، شبيهة بِجُزر معزولة" يقول المترجم السوري لـ"العربي الجديد".
■ كيف بدأت حكايتك مع الترجمة؟
- هي فِعلاً حِكاية لم أُفكِّر في بدايتها أنّي سأجمع، على صعيدٍ واحد، النقد الروائي والترجمة. لكنْ، حين أُوفِدتُ إلى فرنسا لتحضير أطروحة الدكتوراه، عادت بيَ الذاكرة إلى مُحاضرات أستاذنا الدكتور فؤاد المرعي في الأدب الأوروبي وعلم الجمال، حيث كان يُشير ـ وهو يُحلِّل الأعمال الأدبية ـ إلى أنّها غير مُترجَمة إلى اللغة العربية. وذات يوم، اجتزتُ بحر المانش لزيارة الدكتور فؤاد في مدينة إكستر البريطانية حيثُ كان قد أُوفِد في مهمة بحث علمي. استشرتُه في قضايا منهجية خاصّة بالنقد الجمالي، وبمُخطَّط أطروحتي. ولمّا أتينا على روائع نصوص الأدب الأوربي التي لم تُترجَم إلى العربية، وعدتُه بأن أُترجِم منها ما أستطيع. وهكذا بدأتُ برواية جورج صاند "رامة الشيطان".
كانت البداية عام 1983، في مدينة بيزانسون الفرنسية. وبعد العودة من الإيفاد إلى "جامعة تشرين" (اللاذقية)، اضطلعتُ بتدريس مادّتَي النثر العربي الحديث والأدب الأوروبي. فاعتمدتُ في تدريسهما على المنهج الجمالي القائم على تحليل النصوص لا على تلخيص مضامينها. ممّا أثار من جديد مُشكلة النصوص غير المُترجمَة التي كان يُشير إليها الدكتور فؤاد. ولمّا كان لا بُد من سدِّ بعض الثغرات في هذا المجال، ترجمتُ مسرحية أسخيلوس "الفُرس" (التي تُجسِّد المسرح الملحمي)، ثُمَّ "مُقدِّمة كرومويل" التي صاغ فيكتور هيغو بيان الرومانتيكية من خلالها، ثُمّ رواية "رامة الشيطان"، المذكورة آنِفاً، التي تُعَدُّ نموذجَ الرواية الريفية في القرن التاسع عشر.
نقدُ النصِّ المترجَم هو رَوْز الكفاءة وتقويمها
وقد ترافقت ترجمة النصوص مع ترجمة المقالات النقدية الخاصّة بعلم الجمال العام، ونظرية الفنّ، وجماليات الأدب. فعلى امتداد تسعينيات القرن الماضي، نشرتُ هذه الترجمات في مجلّات عربيّة معروفة كمجلّة "علامات في النقد الأدبي" التي تصدر في جدّة، و"البحرين الثقافية" التي تصدر في المنامة، و"الآداب الأجنبية" التي تصدر في دمشق. وقد جمعت هذه المقالات العشر التي تُوحِّدها روابِط المنهج الجمالي في النقد، ونشرتها عام 2000، في كتاب بعنوان "وَمْضُ الأعماق" صدر عن "دار كنعان".
ومع عودتي إلى باريس، تابعتُ الترجمة، فنشرتُ محاورة أفلاطون "هيبياس الأكبر: في الجميل". ثمّ عمِلتُ مع "المنظّمة العربية للترجمة" في بيروت، فترجمتُ كتاب غاستون باشلار "الماء والأحلام" (2007)، وكتاب رولان بارت "شذرات من خِطابٍ مُحِبّ" (2012). كما عمِلتُ مع دار "الكتاب العربي" في بيروت على ترجمة مجموعة من الكتب في الفلسفة، وعلم الاجتماع، والسياسة، أذكر منها "أساطين الفِكر: عِشرون فيلسوفاً صنعوا القرن العشرين" (2015). وفي عام 2015، بدأت مشروع ترجمة "قاموس علم الجمال" (بالاشتراك مع الدكتور بسّام بركة)، الذي صدر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" (2022). كما ترجمت كتاباً جماعياً بعنوان "العصر الذهبي للمخطوطات العِراقية"، أصدرته "دار الحوار (2017)، وبالتعاون مع "مؤسّسة نفسانيون" في بيروت ترجمتُ كتاب المُحلِّل النفسي المرحوم مصطفى صفوان "ما بعد الحضارة الأوديبية" (2019)، وكتاب المُحلِّلة النفسية حورية عبد الواحِد "نَشوة الجسَد" (2020).
■ ما هي آخر الترجمات التي نشرتها، وماذا تترجم الآن؟
- آخر الترجمات التي نشرتُها كتاب الصحافي البلجيكي ميشيل كولون "من أفواهكم نُدينكُم: الولايات المُتّحدة الأميركية من خلال أسوأ مئة شهادة". وقد فرغتُ قبل أسبوع من ترجمة كتاب الناقد الفرنسي جان ـ بول غو "صوتُ القراءة" الذي سيصدر في "دار كنعان".
■ ما هي، برأيك، أبرز العقبات في وجه المترجم العربي؟
- أبرزُ العقَباتِ ثلاثٌ. العقبَة الأساسية غياب سياسة عربيّة جامعة تضع خُطَط الترجمة في مجالات العلوم والفنون المختلِفة. فعلى الرَّغم من الدَّور المهمّ المَنوط بـ"المؤسَّسة العربية للثقافة والعلوم" (ألكسو)، وبالتحديد دَور مكتب تنسيق الترجمة والتعريب في الرِّباط، و"المعهد العالي للترجمة" في العاصمة الجزائرية، تبقى حركة الترجمة رهينة مُبادرات مُتفرِّقة. فغياب التنسيق المنهجي بين هذه المُبادرات يجعلها، على أهميّتها، شبيهة بِجُزر معزولة أذكر منها: "المنظمة العربية للترجمة" في بيروت، و"المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في الدَّوحة، و"المشروع القومي للترجمة" في القاهرة، و"مشروع كلِمة" في الإمارات العربيّة المُتّحِدَة، وبعض دُور النشر العربيّة.
تتمثَّل العقبة الثانية في عدم وجود نقد خاصّ بالترجمة. وطالما دَعوتُ، في مؤتمرات الترجمة التي يُنظّمها "اتّحاد المُترجمين العرب"، إلى ضرورة تأسيس "نقد الترجمة العربية"، واستنباط منهجه وقواعِده من النصوص المُترجَمة ذاتها. ذلك أنّنا أمام كمّ هائل من الترجمات المُتراكِمَة غير المدروسة نقدياً، وبالتالي غير الداخلة في مناهِج التعليم العربية. فكيف يُمكِن أن يصقل المُترجِم تجربته في ترجمةٍ تفتقِر إلى معايير نقدية تُقوِّم جُودتها ودِقّتها، وتضبط أجهزتها الاصطلاحية؟
أمامنا كمّ هائل من الترجمات المُتراكِمَة غير المدروسة نقدياً
من ثَمّ تنبثق العقَبة الثالثة المُتعلِّقة بكفاءة المُترجِم الذي يقتضي إلماماً معرفياً بنصوص الاختصاص الذي يُترجِم عنه، وباللغة العربية أيضاً. هذه الكفاءة ليست فِطرية، بل هي نتيجة تحصيل، وبحث مُتواصِل، وخِبرة. ولا مجال في إظهار هذه الكفاءة يعلو على النصّ المُترجَم نفسه. النصّ الذي يعني نقدُه رَوْزَ الكفاءة، وتقويمها. ويعني كذلك ضرورة مُتابعة عملية تعلُّم الترجمة التي لا حدود لها.
■هناك قول بأن المترجم العربي لا يعترف بدور المحرِّر، هل ثمة من يحرّر ترجماتك بعد الانتهاء منها؟
- دَور المُحرِّر ضروري. أمّا أنا فأُحرِّر ترجماتي. لأنّني مُتخرِجٌ في قسم اللغة العربية، ومُتخصِّص في النقد الأدبي، وأعدُّ نفسي ناقِد ترجمةٍ أكثر منّي مُترجِماً. لذلك أشفع ترجمتي غالباً بمُقدّمة. وقد كانت فرحتي عظيمة حين تفضّل الشاعر الكبير أدونيس بتقديم ترجمتي كتاب "الماء والأحلام".
■ كيف هي علاقتك مع الناشر، ولا سيما في مسألة اختيار العناوين المترجمة؟
- لعلّ من باب المُصادفات الثقافية أنّي لم أنشر ترجمتي إلّا بفضل ناشرين أصدقاء. لذلك كان اختيار العناوين نتيجة نِقاش موضوعي تُتوِّجه الصداقة. هذا ما حصل مثلاً حين أشار عليّ الطاهر لبيب، مدير المُنظّمة العربية للترجمة، ترجمة عنوان كتاب رولان بارت "شذرات من خِطابٍ مُحِبّ" لا "شذرات من خِطابٍ عاشِق". وقد أخذتُ بمشورته لأنّه راجع ترجمتي مُراجعةَ المُتخصِّص العارِف فِكرَ رولان بارت ومنهجَه، بارت الذي كان عُضواً في لجنة مُناقشة أطروحته لِنَيل شهادة الدكتوراه، وموضوعها سوسيولوجيا الغزَل العربي: الشِّعر العُذري نموذجاً. وقد تكرَّر الأمر مع الصديق الدكتور محمّد دِبس حين ناقشنا عنوان الكتاب الفرنسي Maitres à penser. فكلمة Maitre الفرنسية تعني، في العربية، شيخ الصَّنعة أو المُعلِّم كقولك المُعلِّم بطرس البُستاني. ولكنّ صيغة الجمع صوّبت نظرنا على كلمة "أساطين" التي لا مُفرَد لها في العربيّة.
أعدُّ نفسي ناقِد ترجمةٍ أكثر منّي مُترجِماً
■ هل هناك اعتبارات سياسية لاختيارك الأعمال التي تترجمها، وإلى أي درجة تتوقف عند الطرح السياسي للمادة المترجمة أو لمواقف الكاتب السياسية؟
- لم تدخُل الاعتبارات السياسية في اختياري النصوص التي ترجمتُها. ولن تدخُل أبداً.
■ كيف هي علاقتك مع الكاتب الذي تترجم له؟
- الكُتّاب الذين ترجمتُ نصوصهم باتوا جميعاً أصدقاء. إذ تعزّزت علاقتي بالفيلسوف الفرنسي الراحل فيليب سِرجان إثر مُناقشاتٍ حاميَة حول مفاهيم إشكالية كمفهوم الآخريَّة، والصيرورة الحيوانية كما شرحها جيل دولوز، والعود الأبدي عند نيتشه، والعلاقة بين انغلاق الذات والترجمة التي تفترِض انفتاحها. كما تعزّزت مع الشاعر والناقد الفرنسي الرّاحِل كلود مارغا الذي ترجمتُ له كُتيّباً يُعلِن فيه موت الشعر الوشيك في فرنسا بعنوان "جماعةُ الصَّمت المُطبِق". العنوان الذي أثار نِقاشاً وَعِراً بيننا. فأنا لستُ من أنصار مثل هذا النّعي الثقافي: موت الفَنّ، وموت المؤلِّف، وموت النَّقْد، وموت الشِّعر... إلخ، وهو يُقدِّم الأدلّة النصيّة والنقدية على دُنوِّ أجَل الشعر في الغرب أمام اجتياح العولمة، وقانون السوق وما يُثيره من حروب وانقلابات عسكرية، وأزمات اقتصادية... إلخ.
■ كثيراً ما يكون المترجم العربي كاتباً، صاحب إنتاج أو صاحب أسلوب في ترجمته، كيف هي العلاقة بين الكاتب والمترجم في داخلك؟
- ثمَّة من يُحبِّذ أن يكون مُترجِم السرديات قاصّاً أو كاتباً روائياً، ومُترجم الشِّعر شاعراً. ولا شكّ في أنّ ترجمة كتُب الطِبّ الأدقّ هي تلك التي أنجزها أطبّاء. وما يُقال في الطِبّ يُقال في سائر ميادين المعارف والعلوم.
أمّا أنا فأعُدُّ نفسي ناقِداً في مجال الترجمة لأنني أُترجِم وَفْقاً لقواعِد منهج نقدي أُسمّيه نقد الترجمة العربيّة الذي يُراعي منطق العِبارة في النصّ المُترجَم. فالعبارة الشّعرية هي التي ينبغي أن تسود القصيدة المُترجَمة، والعِبارة العلمية الدقيقة هي التي ينبغي أن تسود ترجمة الكتُب والأبحاث العلمية. ولا أحد يُجادِل في أنّ ترجمة الروايات الأجنبية ترجمة ناجحة يُمكِن أن تتحقَّق في غياب العِبارة السرديّة باعتماد العبارة الإخبارية المُعتمَدة في الصحف، والتقارير المُصوَّرة. وباختصار أقول: نحنُ نظلِم المُترجِم إذا عددناه مُجرّد ناقِل معاني نصّ أجنبي إلى اللغة العربيّة.
■ كيف تنظر إلى جوائز الترجمة العربية على قلّتها؟
- جوائز الترجمة العربية حافِز عظيم الأهميّة على العناية بالترجمة وتجويدها وصقل أدواتها باستمرار. وأرى أنّها في أغلب الأحيان تُنصِف المُترجمين العرب حين تُقوِّم ترجماتهم تقويماً موضوعياً، وتُكافئهم عليها. فيزدادون إصراراً على المُتابعة في تعميق تجربتهم، وإغنائها بمزيد من الجهود المعرفيّة التي يُدرِكون أنها لا تذهبُ سُدى.
■ كتاب أو نص ندمت على ترجمته ولماذا؟
- لم أندَم قَطُّ على نصٍّ ترجمتُه.
■ ما الذي تتمناه للترجمة إلى اللغة العربية وما هو حلمك كمترجم؟
- تُدغدغني أُمنيتان: تفعيل عمل "المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم". وتأسيس نقد الترجمة العربية.
بطاقة
مترجم سوري من مواليد اللاذقية عام 1955، ويقيم في فرنسا، حيث تحصّل على دكتوراه في جماليات الرواية العربية من جامعة السوربون الرابعة عام 1989. له في الترجمة أكثر من ثلاثين كتاباً، منها: "رامة الشيطان" (1994) لجورج صاند، و"الماء والأحلام" (2007) لغاستون باشلار، و"شذرات من خِطابٍ مُحِبّ" (2012) لرولان بارت، كما صدر له مؤخّراً (بالاشتراك مع بسام بركة) "قاموس علم الجمال" لإتيان سوريو، عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات".