تقف هذه الزاوية مع مترجمين عرب في مشاغلهم الترجمية وأحوال الترجمة إلى اللغة العربية اليوم. "القِيم التي أعنيها في ترجماتي ليست وطنية أو دينية أو أيديولوجية، بل هي القيم البشرية العامة"، يقول المترجم السوري في حديثه إلى "العربي الجديد".
■ كيف بدأت حكايتك مع الترجمة؟
- كان أول كتاب ترجمته "سنة 501 ـ الغزو مستمر" لنعوم تشومسكي وقد نشرَتْه دار المدى في دمشق سنة 1993. أعقب ذلك عدد صغير من الكتب والكثير من الترجمات المؤسساتية والصحافية. صارت الترجمة عملي الوحيد منذ سنة 2005، ثم اقتصرتُ على ترجمة الكتب منذ نحو ثماني سنين.
■ ما هي آخر الترجمات التي نشرتها، وماذا تترجم الآن؟
- آخر ما نُشر لي رواية بعنوان "الموت والدرويش" للكاتب البوسني ميشا سليموفيتش صدرت عن دار وَسْم في الكويت في خريف 2022. وقد فرغتُ قبل أيام من ترجمة رواية للبريطانية الباكستانية كاملة شمسي بعنوان "الصديقتان" ستصدر قريباً عن دار التنوير.
القدرة على "التلوّن" الأسلوبي هي ما يميز المترجم الجيد
■ ما هي، برأيك، أبرز العقبات في وجه المترجم العربي؟
- العقبات كثيرة، ومنها "التحرّج" في اللغة بالمعنى الذي ذهب إليه طه حسين. لغتنا العربية غنية جداً من حيث المفردات وأساليب القول، لكنها صارت تشكو فقراً إزاء ما هو موجود في عالم اليوم. كثيرة جداً هي الكلمات العربية ذات الأصول الفارسية (حتى في القرآن)، فلماذا نتحرّج اليوم من استخدام كلمة "داونلود" مثلاً؟ ولماذا لا نزال نفضل تحاشي استخدام معظم الاختصارات الشائعة في لغات أخرى (UN, EU… )؟ من ناحية أُخرى، نجد أن حقوق المترجم لا تزال غير محمية إذ يندر جداً أن يكون المترجم مالكاً لحقوق نشر ترجمته إذ ينص عقده مع الناشر على التنازل عنها (من غير مقابل).
لكن العقبة الأبرز والأصعب تجاوزاً هي القارئ العربي نفسه (قبل القوانين وقبل الرقابة وكل ما تعانيه صناعة الكتاب من مشكلات جسيمة أكبرها مشكلة القرصنة التي تتجاهلها الحكومات العربية جميعاً). لماذا؟ بكل بساطة لأن العرب لا يقرؤون. بالمقارنة مع معظم البشر، نحن لا نكاد نقرأ شيئاً! لا يمكن أن توجد حركة نشر قوية مزدهرة من غير وجود سوق واسعة لها. إن وجدت تلك السوق فسوف يكون قطاع النشر كله أقدر كثيراً على معالجة المشكلات الأخرى. وهنا، بل هنا بالضبط، تكون مسؤولية الحكومات لأنها هي صاحبة القرار في قطاع التعليم وهي القادرة، إن قررت، على جعل القراءة عادة أصيلة منذ الطفولة وعلى جعل الكتاب سلعة رائجة. من غير هذا، لا أرى كبير فائدة من المهرجانات والمعارض والجوائز، بل حتى من مشاريع النشر الحكومية أو شبه الحكومية.
يمكن النظر إلى الأمر من ناحية أخرى (لا سبيل إلى هذا النظر إلا بعد تخلينا عن "أوهام" مثالية كثيرة) ألا وهي أن الناشر مُستثمِر وأن صناعة النشر "بزنس" يصح عليها ما يصح قوله على صناعة الأغاني أو على كرة القدم: إن كانت السوق نشطة والإقبال كبيراً، فسوف يكون العمل مربحاً وسوف يزدهر هذا القطاع، وإلا فلا أمل حقيقياً يرتجى.
■ هناك قول بأن المترجم العربي لا يعترف بدور المحرِّر، هل ثمة من يحرّر ترجماتك بعد الانتهاء منها؟
- الحقيقة أنني لا أعرف مصدر هذا القول. غالباً ما تمر ترجماتي على محرر/مدقق لغوي قبل نشرها. لكن ثمة مشكلة حقيقية لدى دور النشر (بحسب تجربتي، على الأقل) في تحديد مهمة "المحرر"، فضلاً عن أنها هي التي ينبغي أن تكون مسؤولة عن إقامة العلاقة الصحية بين المترجم ومن يراجع عمله. في الوضع الراهن، العلاقة ليست غير صحية فقط، بل هي غير موجودة أصلاً. من ناحيتي، أنا منفتح جداً على "دور المحرّر" شريطة التشاور بينه وبين المترجم للاستقرار على النص النهائي. لكني أستطيع القول إنني "متشدد" إزاء التدخلات الأسلوبية لأنها في حاجة إلى محرر يقرأ النص الأصل ويحاكم الترجمة انطلاقاً منه فضلاً عن كونه صاحب قدرات أدبية عالية وعن قدرته على محاورة المترجم وإقناعه. لكن علينا أن نكون واقعيين وأن نسأل: هل يستطيع الناشر تحمل تكلفة هذا؟ لا أظن.
■ كيف هي علاقتك مع الناشر، ولا سيما في مسألة اختيار العناوين المترجمة؟
- علاقتي مع الناشرين جيدة. ولم أواجه إلا مشكلات محدودة، مرتين أو ثلاث مرات فقط. وأما مسألة الاختيار، فأنا أختار ما يناسبني من بين خيارات الناشر. ولما كانت الترجمة عملي الوحيد (أي مصدر عيشي الوحيد)، فأنا أكون بعض الأحيان مضطراً إلى "انتقاء" ما لا أظنني أنتقيه لو كان أمامي غيره.
لا يمكن أن توجد حركة نشر قوية من غير وجود سوق واسعة
■ هل هناك اعتبارات سياسية لاختيارك للأعمال التي تترجمها، وإلى أي درجة تتوقف عند الطرح السياسي للمادة المترجمة أو لمواقف الكاتب السياسية؟
- قليلة هي الكتب السياسية التي ترجمتها فأنا أفضّل الرواية دائماً. لكني أقول إن لدي مرونة كبيرة إزاء الطرح السياسي، ولا مشكلة عندي في أن تحمل المادة المترجمة آراء لا تعجبني. مع هذا، لو طُرح عليّ أن أترجم عملاً أرى فيه خللاً قِيَميّاً كبيراً فلا أظنني أستطيع قبوله (كأن يكون مدافعاً عن التعذيب أو العبودية أو الاغتصاب). القِيم التي أعنيها هنا ليست قيماً وطنية أو دينية أو أيديولوجية، بل هي القيم البشرية العامة.
■ كيف هي علاقتك مع الكاتب الذي تترجم له؟
- لا علاقة لي به إلا فيما ندر. وأما في الحالات القليلة التي كان لي فيها تواصل مع الكاتب، فقد كانت التجربة مثمرة فعلاً.
■ كثيراً ما يكون المترجم العربي كاتباً، صاحب إنتاج أو صاحب أسلوب في ترجمته، كيف هي العلاقة بين الكاتب والمترجم في داخلك؟
- أرى أن المترجم الناجح كاتب بالضرورة. المترجم يعيد خلق النص، وهو "مالك" له، بعد الكاتب طبعاً. لكن الحقيقة أن المترجم لا بد له من أن يكون كاتباً "مُتلوناً"، في الأدب خاصةً، لأن عليه أن يكون أميناً لأسلوب الكاتب وإحساسه، لا لفكرته فحسب. أرى أن هذه القدرة على "التلون" الأسلوبي هي ما يميز المترجم الجيد حقاً. ومن هنا لا بد للمترجم من أن يكون "غير أمين" لأسلوبه الشخصي في الكتابة.
■ كيف تنظر إلى جوائز الترجمة العربية على قلّتها؟
- الجائزة تقدير لمن عمل فأحسن عملاً. وهذا جميل ومحمود دائماً. وأما إذا أُريد للجائزة أن تكون أعمق أثراً، فأرى أنها يجب أن تكون من نصيب الناشر والمترجم معاً (أعني هنا الناشر "الخاص" لا الحكومي) لأن هذا يعزّز مكانة من ينشرون أعمالاً جيدة ويجعلهم أقوى في السوق وأكبر قدرة على الاستمرار.
■ الترجمة عربياً في الغالب مشاريع مترجمين أفراد، كيف تنظر إلى مشاريع الترجمة المؤسساتية وما الذي ينقصها برأيك؟
- لدي هنا مشكلة في فهم المقصود بتعبير "مشاريع". ولست أدري كيف أجيب عن هذا السؤال. إن كان المقصود بالترجمة المؤسساتية هو مشاريع الترجمة لدى جهات حكومية أو شبه حكومية فأنا ضدها من حيث المبدأ (مع إقراري بحسن نوايا كثير منها وبإخلاص القائمين عليها). رأيي هو أن ليس من عمل الحكومات أن تنشر كتباً، تماماً كما أن ليس من عملها أن تصنع أفلاماً أو حقائب أو موسيقا. كل حكومة لديها توجهاتها وفهمها للعالم والمجتمع، ولا سبيل إلى فصلٍ مستقر يمكن الاطمئنان إليه بين هذا وبين توجهات ما ستنشره من كتب. كلما ابتعدت الثقافة عن السلطة السياسية كان هذا أفضل لها. كما قلت في إجابة سابقة: إن أرادت الحكومات تشجيع صناعة الكتاب فعليها أن تنمّي عادة القراءة من خلال النظام التعليمي وتوفير المكتبات العامة إلى جانب الحماية الجدية لحقوق الملكية الفكرية.
■ ما هي المبادئ أو القواعد التي تسير وفقها كمترجم، وهل لك عادات معينة في الترجمة؟
- أظنني غير مؤهل للكلام على قواعد أو مبادئ، فأنا مترجم ولست "ناقداً ترجمياً". أقرأ ما أترجمه قبل بدء العمل. أحياناً، أقرأ الكتاب كله. وفي أحيان أخرى، أقرأه على أجزاء. وبالطبع، لا بد من جولة (سريعة أو تفصيلية) للاطلاع على مراجعات الكتاب وتكوين فكرة معقولة عن أعمال الكاتب الأخرى. لكن هذا كله شديد الاختلاف بين كتاب وآخر. وأما عن عاداتي في الترجمة فمن الممكن القول إنني فوضوي وإنني ضعيف القدرة على تنظيم الوقت. لا أراجع شيئاً من الكتاب إلا بعد الفراغ منه كله، ولا أعمل على كتابين معاً.
■ كتاب أو نص ندمت على ترجمته ولماذا؟
- لا أندم على كتاب أو نص ترجمته. ثمة أشياء قليلة القيمة، وأشياء لم تعجبني، لكن هذا ليس مدعاة للندم.
■ ما الذي تتمناه للترجمة إلى اللغة العربية وما هو حلمك كمترجم؟
- أتمنّى أن تزداد أعداد الكتب المترجمة وأن يصير القراء أكثر عدداً وأكبر قدرة على متابعة أهم ما يصدر في العالم. وأما حلمي كمترجم فهو أن أصير مترجماً غير مضطر إلى الترجمة، أي أن أصير "هاوي ترجمة" كي أستطيع أن أقرأ أكثر وكي لا أترجم إلا روايات أكون معجباً بها إعجاباً حقيقياً (ليتني أستطيع ترجمة كل ما كتبه النرويجي كارل أوفه كناوسغارد صاحب سداسية "كفاحي"!). لكني لا أجرؤ على القول إنني متفائل بتحقق أمنياتي للترجمة عامةً أو لنفسي.
بطاقة
مترجم سوري من مواليد دمشق عام 1961 ومقيم في بلغاريا. نشر قرابة سبعين عنواناً مترجماً من بينها: "حب وقمامة" لإيفان كليما (2012)، و"فتاة القطار" لباولا هوكنز، و"تانغو الخراب"، "وكآبة المقاومة" للازلو كراسناهوراكي، و"مغامرات أوجي مارتش" ساول بيلو (2015)، و"الحسون" لدونا تارت (2019)، و"كفاحي" بأجزائها الخمسة لكارل أوفه كناوسغارد، و"دروس الحب" (2020)، و"مسرات العمل وأوجاعه" لآلان دوبوتون، وغيرها.