مع فلسطين: المقاومة بوصفها بنية وعي

25 مايو 2021
عمل لـ روان عناني، فلسطين
+ الخط -

وأنا أتابع أخبار العدوان الصهيوني على إخواننا الفلسطينيين، أتساءل: أيّ طعم للحياة تحت وابل القذائف والخرطوش الحيّ، وأيّ طعم للمشاعر الفرديّة المعزولة؟ أقول مطمئناً نفسي: إنّ مبدعين من صنف غسّان كنفاني، ناجي العليّ، كمال بُلّاطه وغيرهم قد احترفوا المقاومة من حيث هي بنية وعي خلّاق للقيم المعرفيّة. الاستنكار، وإن كان أضعف الإيمان، لا يكفي. البكاء أو النّواح على الأطلال لا يكفي. وكذلك التّنديد والشّجب، وغير ذلك من المواقف من بَنات المشاعر النّبيلة، لا ولن يكفي.

لا بدّ من الاشتغال على ما من شأنه أن يحوّل الحقّ الفلسطينيّ إلى مجال الحقيقة الكونيّة وإلى مركز المعقوليّة الإنسانيّة التّاريخيّة، حتّى لا ترتهن فقط بخريطة بعينها ومحدودة. إذ الحقّ الفلسطيني أكبر من منطق الجغرافيا، إنّه مسألة حقّ وحقيقة وعقل في التّاريخ، كما أنّ المقاومة فكر نابض ولئن ارتهنت بحدود "المكان" فستظلّ مرتهنة بأصحابه بينما يكون غيرهم متفرّجين، "غير متمكّنين"، مثلما يكونون متعاطفين في أحسن الأحوال. ويفترض اليوم ألا يبقى هذا الحقّ قضيّة شعب أوحد وأعزل، نواكب معاناته عبر الشّاشات وفي أنفسنا لوعة العاجز، بل أن تكون قضيّة كونيّة من قضايا الإنسانيّة قاطبة، تحظى بمستطاع العقل التّاريخي والمعرفي، على مدار السّنة، في تعاطيه مع الأساسيّات مثل قضايا الماء والغذاء والهواء والحريّة...

أجل، إنّ الحقّ الفلسطينيّ هو مسألة محوريّة في فهم تشكّلات الخريطة الإقليميّة، سياسيّاً وعسكريّاً واقتصاديّاً... ولكنّه مسألة إنسانيّة في علاقة بقيم الأرض والحريّة والسّيادة والحقّ. ومن ثمّة، كلّ كاتب نزيه وصادق إنّما هو نصير لهذا الحقّ بالضّرورة. وأن تكون المقاومة بنية وعي داخليّ منتجة للقيم المعرفيّة، هو أن تقوم على الحفر في التّاريخ وعلى التّحليل والتّوضيح والنّقد وضبط مرجعيّات الفهم وتصحيح الحقائق والتأسيس المستمرّ لآليّات التّمييز والإحاطة المعرفيّة بالموضوع وما يحيله إلى أنّ الحق الفلسطيني ليس مجالاً عاطفيّاً فحسب، بل هو من منطق العقل الفاهم وتمظهراته وبديهيّاته.

الحق الفلسطيني أكبر من منطق الجغرافيا: إنه مسألة حقيقة

ولا ريب، من شأن المقاومة المعرفيّة أن تكون مغذّية لأشكال المقاومة الأخرى وأكثر توسّعاً، إذ هي تساهم في خلق مبرّرات معقولة لتنمية الرّصيد الفكري والوعي المحرّك وتوسعة مجال الإقناع العقلاني، باتّجاه صياغة أسس للحقيقة أكثر نفاذاً إلى عمق الوعي الإنساني. تلك هي وظيفة حمَلَة القلم والرّيشة، فيما التّنديد والاستنكار لا يكفيان لصياغة وظيفة الكتابة في ظلّ منظومة القوى الغاشمة زمن الظّلم والقهر اللذين يُمارَسان صهيونيّاً على الأبرياء الفلسطينيّين، أصحاب الأرض. ولئن كان الحقّ الفلسطينيّ قديماً، إلّا أنّه ما زال يفترض ضرورة تمويل الوعي المقاوم بما يحتاجه من مراكمة معرفيّة ليتحوّل إلى قوّة الأفكار والقناعات والحجج والمعارف... ولكن في علاقة بمجريات التّاريخ على الأرض.

أَلَا إنّ معيشنا التّاريخي وما يحمل من دوافع تلقائيّة هو الذي إليه ترجع جماليّة المقاومة شُغلاً يوميّاً ملحّاً. فهي ليست مرتهنة، من حيث ظهورها، بالمناسبات السّنويّة أو بإحياء الذّكرى، مثل يوم الأرض أو يوم الشهيد... كما لم تعد منحصرة في ذلك التّعاطف السّينمائي مع سعي الشّعوب وأبطالها إلى التّحرّر. على أنّ المقاومة وإن ارتقت في بعض التّجارب إلى الحراك اليوميّ الدّؤوب، فقد بقيت هاجساً فرديّاً أو أنشودة غابت مضامينها في زُخرف الشعريّة الثوريّة.

لكأنّ كلّ فرد أصبح، باسم الثوريّة، يبحث له عن عدوّ بجانبه، ينتعش بوجوده ويتعيّش منه ويتميّز من خلاله على حسابه ويعلن مقاومته له. فتراه يبذل قصارى جهده حتّى لا يندثر هذا العدوّ، خشية أن تتهاوى حجّة وجوده على الأرض، وتراه يُميته ثمّ يحييه من جديد. فيما المقاومة أكثر من هاجس فرديّ، سعيد في بهرجه البطوليّ، إنّها تحتاج إلى تمثّل ذاتيّ وصياغة منظومة علاقات جديدة ما بين الذّوات في مواجهة رهبة الإرهاب والقمع وانتهاك منطق الحياة...

للمقاومة المعرفية أن تكون مغذية لأشكال المقاومة الأخرى

وفي هذا المستوى البيذاتي، تتأسّس جماليّة المقاومة على مقاومة التّمثُل الدّاخلي لعلاقات السّلطة، فنقاوم ما يعشّش داخلنا من نوازع التسلّط والخضوع والخوف والخنوع بدل أن تكون المقاومة احتفالاً مرسّماً في جدول البرمجة السّنويّة للبكاء على الأطلال وإحياءً للذكرى. وهو ما يتطلّب ارتباطاً عضويّاً بين المعنى السّياسي والمعنى النّفساني، حيث المقاومة بنية وعيٍ حيّ.

إنّ مسار تَذويبِ النّزعة الفرديّة، كما هو الشأن لدى جاك لاكان، هو نفسه مسار تَذويتِ أخلاقيّات المقاومة في كنف التّعدّد والتّنوّع. عندها، وحتّى لا تبقى شعاراً فرديّاً أو طابعاً يستأثر به البعض ليجعلوه بطاقة تعريف لهم، تصبح المقاومة موقفاً تمثُّلياً معمّماً تتقاسمه مختلف الذّوات. إذ بمثل هذا الوعي الاستكباريّ المستأثر بعنوان المقاومة، يترك الأفراد عدوّهم المشترك ويتحوّلون إلى مقاومين بعضهم لبعض، طمعاً في نيل أنبل الجوائز والشّهائد في مهرجانات المقاومة.

وفعلاً، إنّ أوكَدَ الرّهانات لتعميم إحساسيّة المقاومة هذه هو مقاومة ما يسمّيه ميشال فوكو بالنّزعة الميكرو- فاشيّة، التي تقبع فينا فتُحرج سلوكاتنا وتجعلنا نعشق جلّادنا ونستمتع بما به يقمعنا ونرضخ لسلطانه ونبرّر ابتزازه لنا. وهو رهانٌ نجده بشكل آخر في المقاومة الأوديبيّة لدى جماعة التّحليل النّفسي.

معيشنا التاريخي يُرجع جمالية المقاومة شغلاً يومياً ملحّاً

ولئن كانت المسألة، في نظر جيل دولوز، موضع سؤال رئيسٍ هو كيف تتحوّل الذّات من كونها مركزاً إلى كونها مساراً باتّجاه الآخر (أي الصّيرورة الغيريّة)، إلّا أنّ صيغةً أخرى للمسألة تبدو ملائمة كلّما اعتبرنا هذا الآخر ذاتاً تقبل أطروحة التّذاوُت، وهي أن يقع تحويل الأنا المضطّهدة إلى ذات إيطيقيّة تستوعب أخلاقيّة المقاومة وتؤسّس لها (صيرورة ذاتيّة). وعند هذا الحدّ، ندفع بإشكاليّة المقاومة إلى حدودها المزدوجة، على النّحو الذي تفيده المفردة الألمانيّة فيدرشتاند (Widerstand)، أي المقاومة السّياسيّة والنّفسانيّة في آن، مقاومة ما اختزله جاك دريدا في دوافع الموت وصنّاعه الذين يهدّدون نبض الحياة.

وفي هذه الحالة، يمكن للفنّ أن يقدّم شكلاً رفيعاً في تمثُّل المقاومة ببعديها الدّاخلي والخارجي. إذ يهدينا من داخل طبيعته الإبداعيّة بنية وعي مقاوم ينبض بين الذّوات ويستمرّ من خلال التّفاعل والتّراكم والمشاركة الخلاّقة... والنّظر مستمرّ.

 

بطاقة
باحث وفنان تشكيلي تونسي من مواليد 1966. أستاذ الجماليات وعلوم الفن في "جامعة صفاقس" وباحث في "جامعة تولوز"، جنوب فرنسا. عضو مؤسّس في "الرابطة التونسية للفنون التشكيلية"، ورئيس تحرير مجلّة "فنون"، التي تصدر بتونس العاصمة. يعرض لوحاته منذ 1983. من مؤلفاته: "تشكيل الرؤية" (2007)، و"بنية الذائقة وسُلطة النموذج" (2013)، و"صفاقس، قصّة 12 قرناً" (2017)، و"العمل الفنّي وتحوّلاته بين النظر والنظرية" (2019).

موقف
التحديثات الحية
المساهمون