- يناقش سالم تأثير فلسطين في حياته، مشيرًا إلى الطاقات الهائلة للأمة العربية وأهمية التراث الفلسطيني، مستشهدًا بمشاركته في مؤتمر لحفظ التراث.
- يختتم بالتأكيد على قوة العمل الإبداعي في مواجهة الصراعات، مشددًا على ضرورة الإيمان بقدرات الأمة العربية واستلهام المستقبل من عظمة الأسلاف.
تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أيام العدوان على غزّة، وكيف أثّر في إنتاجه وحياته اليومية، وبعض ما يودّ مشاركته مع القرّاء. "لا بدّ لنا أن نخرج من دائرة الصراعات والدمار إلى دائرة العِلم والعمل"، يقول المعمار السوري الجزائري هادف سالم لـ"العربي الجديد".
■ ما الهاجس الذي يشغلك هذه الأيام في ظل ما يجري من عدوانِ إبادة على غزّة؟
أعتقد أن أي إنسان عربي، مسلم أو مسيحي، بل أي إنسان يتّسم بالإنسانية لا يُمكن إلّا أن ينشغل بالأحداث في فلسطين وفي غزّة بالأخص، وهو أمر ليس حديثاً، فأنا عايشته منذ طفولتي، كوني تربّيت في بيت امتلأ بالنضال والأدب منذ فتحتُ عينيَّ، فالوالد بدأ حياته في "جيش الإنقاذ" عن عُمر لم يتجاوز السابعة عشرة. ومن دون الخوض في الكثير من التفاصيل، يمكن أن تتصوّر كيف كانت حياته الباقية، التي كرّسها للنضال في سبيل فلسطين، كما شغل منصب مدير عام النشر في سورية خلال الستينيات، فكان بيتُنا لا يكاد يفرغ من زيارات الكُتّاب ولم أكن في صغري أعرفهم جميعاً، لكنّي لا يُمكن أن أنسى مثلاً شاعراً بمكانة الراحل مظفّر النوّاب.
■ كيف أثّر العدوان في حياتك اليومية والإبداعية؟
كما سبق وقلتُ إن فلسطين كانت دائماً حاضرة في حياتي. إنما لكلّ عدوان وقْعٌ وجرح وحسرة على ما تعيشه أمّتنا. ولا يُمكن إلّا أن أكون مُقتنعاً بأن أمّتنا تملك طاقات هائلة، وأننا نحتاج لتنظيمها فقط لننطلق في بنائها، ولذلك زرَع لنا الغرب الاحتلال ليخلق لنا حروباً دائمة تُدمِّر ما بنيناه، ولذلك دُمّر العراق ومن بعده ليبيا وسورية واليمن والسودان، واستُنزفت كلّ القدرات العربية في حروب عبثية. ولأعود إلى غزّة فلا أظلمها، أسوق بعض أبيات كتبتُها خلال 2014، ومطلعها: "لكِ غزّة عيون العُربِ لم تنمِ/ تبيت الليل تدعو غصّة الكلمِ/ وبالعبرات راجية الإله فما/ تمدّ الكفّ بالشهقات والألم".
نحن في هيئة "خبراء التراث في العالَم العربي"، وهي تضمّ نخبة من الأثريّين والمؤرّخين والمعماريّين والأنثروبولوجيّين والفنّانين، والعديد من التخصّصات في التراث، نعدّ منذ فترة لمؤتمر لحفظ التراث في العالَم العربي مع "مدرسة العمارة" التابعة لـ"جامعة قرطاج" في تونس، عُقد نهاية الشهر الماضي، ويُعدُّ التراث الفلسطيني من أهمّ محاوره، وما يعيشه لسنين طويلة من سرقة وتزييف، وازداد الأمر أهمّية مع ما يحدث مؤخّراً.
■ إلى أي درجة تشعر بأن العمل الإبداعي ممكنٌ وفعّال في مواجهة حرب الإبادة التي يقوم بها النظام الصهيوني في فلسطين اليوم؟
نحتاج للتنظيم، لأنّ أمّتنا ولّادة وحبلى بالمُبدعين، فالموسيقى وُجدت في أرضنا وفي حضاراتنا، والفنون عرفتها بلادنا منذ ما قبل التاريخ، والرسم على الجدران الأقدم في التاريخ موجود في سورية، والخزف المشوي والمُلوَّن الأقدم في التاريخ موجود بالمشرق أيضاً في الألف السادس قبل الميلاد، ما يسبق وجود الحضارة الصينية بثلاثة آلاف سنة، وكذلك الفلك والرياضيات البابلية والمصرية هي الأقدم في تاريخ البشرية، والبناء والزراعة والري والطبّ والكيمياء. تصوّر أن سدَّ مأرب كان أول سدّ مُسلَّح بقُضبان النحاس في الألف الأول قبل الميلاد قبل وجود روما، وأن أوغاريت في الألف الثاني قبل الميلاد عرفت وجود أواني الكُحل للزينة، وأن موقع أريحا في فلسطين يعدّ من أقدم التجمّعات المدنية في تاريخ البشرية، فكيف لهذه الأمّة المُبدعة التي أُعطت الديانات السماوية المُوحِّدة الأهم في التاريخ البشري والأكثر انتشاراً، أن تتوقّف عن الإبداع، وكيف لمجازر تقوم على أرضها بهذا الشكل اللّاإنساني الذي يُذكِّر بالاجتياحات المغولية الإجرامية الهدّامة، ألا تُثير عاصفة من الإبداع في وجدان أمّتنا وفي وجدان كلّ فرد فينا، نحن أقدم أُمم الأرض المُبدعة.
من المشرق إلى المغرب دماؤنا ممتزجة في كلّ ربوع أوطاننا
■ لو قيّض لك البدء من جديد، هل ستختار المجال الإبداعي أو مجالاً آخر، كالعمل السياسي أو النضالي أو الإنساني؟
لم ينفصل الجانب العِلمي عن الفنّي والأدبي، أو عن العلوم الإنسانية في حياتي، وفي فترات كنتُ أرسم وأكتب الشعر، ثم قلّ إنتاجي في دراستي لهندسة العمارة للاضطرار للعمل، بعدها ترَك رحيل الوالد الذي تفجّر قلبه بعد "مؤتمر مدريد" صدمة، لأعود وأدرس الحقوق والدراسات العليا في الدبلوماسية، وأكتب الشعر وأرسم من جديد، ولا أجد أنه يُمكن أن نفصل المجالات عن بعضها.
■ ما التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟
أتمنى على أمّتنا؛ حاكماً ومحكوماً؛ أن تعي الرهانات العالمية التي نعيشها. أنا مؤمن أشدّ الإيمان بقدراتنا الكبيرة، وعلينا أن نعود للجدّية والنظام كما كان أسلافنا الذين بنوا الحضارات بجدّيتهم، وعلّموا الأمم بصبرهم على العِلم والعمل، ولا بدّ لنا أن نخرج من دائرة الصراعات والدمار إلى دائرة العِلم والعمل، وأن نطرد الفساد ونعيد القيمة للعُلماء والكفاءات التي طردناها ووضعنا محلّها الفاسدين والمُرتشين لنبني صروحاً من الفساد الذي تحرسه قوى الأمن والجيوش وتسهر على بقائه، وننطلق في البناء لنحمي أنفسنا، وإلّا أصبحنا عبيداً لمئات السنين لغيرنا من الأمم.
■ شخصية إبداعية مقاوِمة من الماضي تودّ لقاءها، ماذا ستقول لها؟
المُبدعون كثيرون في هذه الأمّة، فكلّ الرُّسل فيها مقاومون ومبدعون، والرسول محمّد مقاومٌ ومُبدع بجوامع الكَلم غيّر الشعوب ببلاغته وعلى مرّ أربعة عشر قرناً. أودّ أن أُحيّي القائد صلاح الدين الأيوبي، والقائد أبا مدين الغوث (1126 - 1198م) الذي قاتَل الصليبيّين قادماً من الجزائر، والأمير عبد القادر الجزائري الذي نُفي إلى دمشق ورحل فيها، والشيخ عزّ الدين القسام ابن اللاذقية الذي استشهد على أرض فلسطين، فدماؤنا من المشرق للمغرب ممتزجة في كلّ ربوع وطننا العربي الإسلامي.
■ كلمة تقولها للناس في غزّة؟
ما دام الشافعي منكم فلا خوف عليكم. سيروا أمامنا ونحن من خلفكم فالقيادة الآن لكم.
■ كلمة تقولها للإنسان العربي في كلّ مكان؟
عليك أن تُؤمن بأننا أصحاب الديانات والحضارات التي أشاعت البناء في بقيّة الأُمم، وأنّ أجدادك عُرفوا بالعِلم والعمل، وأنّ ما حاكه الاستعمار من أباطيل ليصبغ تاريخنا بالزيف قد حان وقت نَفْضِه، وإظهار عظَمة أسلافنا الذين اتّسموا بالتواضُع والعِلم والعمل والصدق والنظام، وعليك أن تستلهم مستقبلك منهم.
■ حين سُئلت الطفلة الجريحة دارين البيّاع التي فقدت معظم أفراد عائلتها في العدوان، ماذا تريدين من العالم، أجابت "رسالتي للناس إذا بيحبوا دارين يكتبوا لي رسالة أو أي إشي".. ماذا تقول لدارين ولأطفال فلسطين؟
لقد فضّلكم الله بأن اختار فيكم أُمّة من الشهداء وجعلكم هُداة لنا، كما جعل صحابة الرسول هُداة لمَن سلف، فلا تحزني وافخري بأنّ لديك كلّ هؤلاء الشهداء والشفعاء، مكانتكم عالية في أمّتنا يا دارين أنت وأهلكِ الشرفاء الذين نقتدي بهم.
بطاقة
معمار سوري جزائري، نشأ وعاش بين البلدين. حاز دبلوم العمارة من "المدرسة الوطنية المتعدّدة التقنيات" (البوليتكنيك) بالجزائر العاصمة عام 1993، ودرجة الماجستير في التراث. له العديد من المقالات في أصول العمارة والفنّ، ودور المشرق والعالم العربي الإسلامي في العمارة والفنون المعاصرة، وكذلك في الهندسة الرياضية في العمارة العربية الإسلامية، ويعمل مديراً لـ"مؤسسة تراثنا للدراسات والترميم"، والمُنسِّق العام لـ"هيئة خبراء التراث في العالَم العربي".