استمع إلى الملخص
- **تأثير العدوان على الحياة اليومية والإبداعية**: دفع العدوان الكاتب للاهتمام بالشأن الدولي وكتابة مقالات ودراسات حول فلسطين، ونشرها في كتابه "المؤرخون العرب والقضية الفلسطينية". يؤكد أن اهتمامه بغزة بدأ منذ 7 أكتوبر 2023.
- **دور العمل الإبداعي في مواجهة العدوان**: يرى الكاتب أن توثيق المجازر ضروري للتاريخ، ويعتقد أن نشر الحقائق سيجند الأحرار للضغط على حكوماتهم. يشدد على أهمية إقناع المثقفين لدعم المقاومة الفلسطينية.
تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أيام العدوان على غزّة وكيف أثّر على إنتاجه وحياته اليومية، وبعض ما يودّ مشاركته مع القرّاء. "توثيقُ المجازر ضروريّ للتاريخ والمستقبل، ولكل مبدع طريقته في تثبيت الكلمة" يقول الكاتب الجزائري لـ"العربي الجديد".
■ ما الهاجس الذي يشغلك هذه الأيام في ظل ما يجري من عدوانِ إبادةٍ على غزّة؟
- الهاجس الأول الذي يشغلني هو معاناة إخواننا في غَزّة التي يعجز اللسان والقلم عن وصفها. والهاجس الثاني الذي يشغلني هو مآلات هذه الحرب التي عرفنا متى بدأت، ولكن لا ندري متى تنتهي، وكيف تنتهي. إنَّ القادر على الصَبر والمصابرة والانتصار المعنويّ والانتصار الميدانيّ، هو الذي سيحدّد ساعة النهاية وشكلها. لذلك نجد الصهاينة وحلفاءهم الغربيّين يستعملون كلّ أشكال الحرب النفسيّة والتضليل الإعلاميّ لكسرِ معنويات الفلسطينيّين وأنصارهم في العالم، بمن فيهم الأحرار المقيمون في أوروبا والولايات المتحدة الأميركيّة. لا شكَّ في أنَّ الجميع - بدون استثناء أحد - خاسر في استمرار الحرب على المستوى الأمنيّ والاقتصاديّ، ليس فقط في الشرق الأوسط، ولكن في العالم كلّه. فحرب غزّة صارت الثغرة التي تتسرب منها المياه إلى السفينة، إذا لم يتدارك الجميع الخطر في الوقت السريع لوقفها فسيغرق الكل.
■ كيف أثّر العدوان على حياتك اليومية والإبداعية؟
- لم أكن من المُدمنين على متابعة قنوات الأخبار الدوليّة أو المشاركين في برامج التحليل السياسي للوقائع الحاصلة في العالم، غير أنَّ عدوان غزّة دفعني للاهتمام بالشأن الدوليّ الراهن، وقراءة كتابات خبراء العلاقات الدوليّة والاستراتيجيّة العسكريّة. وقد وظّفت هذا الرصيد المعرفي الجديد في مشاركاتي في الندوات والبرامج الإذاعيّة المخصَّصة للمقاومة الفلسطينيّة. كذلك طالعت كُتبًا وأبحاثًا كثيرةً عن تاريخ فلسطين المعاصر، وكتبت العديد من المقالات والدِّراسات حول هذا الموضوع، ونشرتُ جزءًا كبيرًا منها في كتابي الأخير "المؤرخون العرب والقضية الفلسطينية" في 250 صفحة. فمنذ 7 أكتوبر 2023 صارت عقارب ساعتنا مضبوطة على توقيت غزّة.
النضال هو قبل كل شيء التزام بفكرة أو قيمة أو قضية
■ إلى أي درجة تشعر بأن العمل الإبداعي ممكنٌ وفعّال في مواجهة حرب الإبادة التي يقوم بها النظام الصهيوني في فلسطين اليوم؟
- ما يحدثُ في غَزّة، كما وصفه الخُبراء والعامّة، حَرب إبادة، فالنظام الصهيونيّ يَقتلُ بكلِّ برودة وبدون أيّ ذنب، أطفالًا ونساءً وشيوخًا، بأخطر الأسلحة، ويدمّر المدارس والمستشفيات ودور العبادة، ويشرِّد ملايين من البشر. فتوثيقُ هذه المجازر ضروريّ للتاريخ والمستقبل، ولا شك في أنَّ لكلِّ مُبدعٍ طَريقته في تثبيت الصور والكلمة، ووسائله للتعبير عنها وتبليغها، حتى لا تنسى آثارها ولا تتكرَّر مع شعوبٍ مستضعفةٍ في أماكن أخرى. وكذلك ليعاقب القانون في الوقت المناسب من ارتكب هذه الجرائم الإنسانيّة، وكُلّما انتشرت الحقائق وشاهد الناس فظائع الجرائم، تجنّد الأحرار في كلّ مكان ليضغطوا على حكوماتهم لتُسرع إلى أجل إيقاف النزيف وإنهاء الحرب. فنحن المثقفين العرب لا نملك إلا لساننا وقلمنا لندافع عن هذه القضيّة المصيريّة المشتركة، ونقنع غيرنا من المثقفين والعلماء من الشرق والغرب ليدعموا المقاومة الفلسطينية حتى تتحرّر من الاحتلال.
■ لو قيّض لك البدء من جديد، هل ستختار المجال الإبداعي أم مجالاً آخر، كالعمل السياسي أو النضالي أو الإنساني؟
- النِّضالُ لا يعني دائمًا الانخراط في حزب أو الانتساب لنقابة، وإنّما النِّضالُ هو قبل كل شيء التزام بفكرة أو قيمة أو قضية، بغض النظر عن الشكل الذي يعبّر عنها صاحبها. أنا اخترت التعبير عن التزامي بالإبداع الفكريّ، وهو خيار لا رجعة فيه ولا بديل عنه. لقد أدمنت مبكرًا على قراءة الكتب ومطالعة المجلات، ومارست الكتابة بشغف منذ ربع قرن. غير أنَّني أحب العمل الجمعويّ والنشاط الفكريّ، فانخرطتُ في "جمعيّة العُلماء الجزائريين" وكنت مسؤولًا عن لجنتها الإعلاميّة والثقافيّة، وعملتُ رئيس تحرير جريدتها الأسبوعيّة، ثم أصبحت رئيس تحرير مجلتها الفكريّة الفصليّة. وأُقَدِّمُ منذ سنوات برنامجًا فكريًا تاريخيًا أسبوعيًا في الإذاعة الجزائريّة. فأنا أحرص على العمل الأكاديمي وكذلك خدمة المجتمع الذي يحتاج إلى من يؤطره ويوجهه في الطريق الصحيح.
أود أن أسأل ماركس: لماذا لم تنتصر لمقاومة الجزائريين؟
■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟
- أنا عشتُ بين ثقافتين: العربيّة والغربيّة، درستُ في الجامعة الجزائريّة والجامعة الفرنسيّة، وتعرَّفتُ على أصدقاء من كلِّ الديانات والثقافات والحضارات، واستفدتُ من هذه اللقاءات، واكتشفتُ تقارب وجهات نظرنا في قضايا كثيرة. العالم يحتاج إلى البصيرة لتجاوز الأزمات الكثيرة التي يعيشها حاليًا، ويحتاج إلى الحكمة ليواجه التحديّات القادمة. البشريّة كلها تسير نحو مصير واحد. ولامبالاة الناس وتهوّر بعض أهل القرار يؤديان بالإنسانيّة إلى حرب كونيّة أخرى تعيد الثلة القليلة التي تنجو منها إلى عصر الحجر. كلّ أملي أن يعيش جيلي والأجيال القادمة في عالم يسوده السلام والتسامح.
■ شخصية إبداعية مقاوِمة من الماضي تودّ لقاءها، وماذا ستقول لها؟
- زار كارل ماركس الجزائر في نهاية القرن التاسع عشر للاستجمام والاستشفاء، وتجوّل وصال في البلاد وشاهد بأمّ عينيه الأوضاع الاجتماعيّة القاسيّة التي كان يعيش فيها آنذاك أجدادي الجزائريون، غير أنّه نسي خلال رحلته قيم العدالة التي دوّنها من قبل في كتبه المعروفة، ونسيَ الثورة على الظلم التي نادى بها في أوروبا. فلو التقيتُ بهذا المفكر المُلتزم الشهير سأقول له: لماذا لم تنتفض على الاستعمار الفرنسيّ في الجزائر؟ ولماذا لم تنتصر لمقاومة الجزائريين بعد العودة إلى بريطانيا؟
مستقبلنا مرهونٌ بقدرتنا على تخليص ماضينا من المعطّلات
■ كلمة تقولها للناس في غزّة؟
- غَزّة أعطت لنا نموذجًا في الصبر والإصرار على المقاومة، حتى تستعيد حريّتها وتسترجع كرامتها مهما كان الثمن غاليًا. غَزّة كشفت الغطاء عن الأعداء الظالمين والأصدقاء الخاذلين، وأيقظت الضمائر النّائمة ونبّهت العقول الغافلة، وصار اسم فلسطين وعلمها رمزين للبطولة الصادقة والقوة الروحيّة المُلهمة. وأصبحت قضية فلسطين التي راهن الكثيرون على تهميشها في السنوات الماضية، هي القضيّة الأولى في العالم الراهن، وعادت بقوة إلى الواجهة، وكَسبت لها أنصارًا لو أنفقت ما في الأرض من مال ما كسبتهم وما نالت عطفهم وتأييدهم بالشكل الذي شاهدناه في شوارع العواصم الغربيّة وفي الجامعات الأوروبيّة والأميركيّة.
■ كلمة تقولها للإنسان العربي في كلّ مكان؟
- مستقبلنا مرهونٌ بقدرتنا على تخليص ماضينا من كل المعطّلات التي تعوّق نهضتنا، وبتثبيت إرادتنا الخالصة لنحقِّقَ التطور في المجالات كلّها مهما كانت التضحيات، ومهما بلغت ضريبة التطوّر. ولن يحصل ذلك التطوّر إلا بسواعد العرب المسلحين بسلاح العلم العصري، والمزوّدين بالإرادة الصادقة والقائمين بالعمل الجاد للارتقاء والسؤدد في عصر مضطرب لا يرحم الضعفاء. العالم يسير بمنطق القوة وليس بقوة المنطق، كما كان في عصر الزعماء الحكماء والقادة الراشدين.
■ حين سُئلت الطفلة الجريحة دارين البيّاع التي فقدت معظم أفراد عائلتها في العدوان، ماذا تريدين من العالم، أجابت "رسالتي للناس إذا بيحبوا دارين يكتبوا لي رسالة أو أي شيء".. ماذا تقول لدارين ولأطفال فلسطين؟
- يا دارين ويا أطفال فلسطين، ستشرقُ شَمس الحريّة والكَرامة في فلسطين، وتعودون إلى بيوتكم فرحين، وتبنون قصورًا من الرَّمل على شواطئ غَزَّة وأريحا، وترسمون لوحات على جدران خانيونس وجباليا، وتكتبون قصائد الحياة على سبورة مدارس دير البلح والنصيرات، وترسلون من القدس رسائل الشكر والأمل إلى كلّ الأطفال وأحرار العالم.
بطاقة
كاتب ومؤرخ جزائري، من مواليد عام 1968. أستاذ تاريخ الفكر المعاصر بـ"جامعة الجزائر 2". صدر له 26 كتاباً في التاريخ والفكر، منها: "العلاقات الثقافية بين الجزائر والمشرق العربي في القرن العشرين" (2016)، و"الفكر الإصلاحي المعاصر وقضايا التنوير" (2017)، و"الإسلام والغرب بين رواسب التاريخ وتحديات المستقبل" (2018)، و"مقاربات في الاستشراق والاستغراب" (2018)، "والمؤرِّخون العرب والقضية الفلسطينية" (2024).