مع غزّة: عيسى مخلوف

19 ابريل 2024
عيسى مخلوف
+ الخط -
اظهر الملخص
- الشاعر والمترجم اللبناني يناقش تأثير العدوان على غزة على الوعي الإنساني والإبداع، مشيرًا إلى أن الأحداث لا تؤثر على الفلسطينيين فقط بل على العالم أجمع، وتفضح عودة السلطة والعنف المطلق.
- يتطرق إلى كيفية تأثير المأساة على حياته اليومية والإبداعية، مؤكدًا أن الإبداع يمكن أن يكون مرادفًا للأمل وأداة لدحض حملات التزوير والتأكيد على النزعة الإنسانية.
- يعبر عن أمله في تغيير يقرب بين البعد الإنساني والتطور التكنولوجي، مؤكدًا على أهمية الوعي الشعبي وتشكيل ثقل سياسي يساهم في التخفيف من الظلم وإيجاد حلول قائمة على العدل والمساواة.

تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أيام العدوان على غزّة وكيف أثّر على إنتاجه وحياته اليومية، وبعض ما يودّ مشاركته مع القرّاء. "أن نحوّل الوعي إلى ثقل سياسي فاعل في مواجهة الظُّلم"، يقول الشاعر والمترجم اللبناني لـ"العربي الجديد".



ما الهاجس الذي يشغلك هذه الأيام في ظلّ ما يجري من عدوان إبادة على غزّة؟
ما يحدث في غزّة اليوم هو لحظة تاريخيّة بامتياز، وهذه اللحظة لا تمسّ الفلسطينيّين وحدهم، بل العالَم أجمع، وتفضح حقيقة الواقع الراهن مع عودة السلطة المُطلَقة وما يستتبعها من عُنف مُطلَق، كأنَّ المبادئ والمعاهدات والقوانين الإنسانيّة التي سُنَّت بعد الحربين العالميّتين انهارت الآن تماماً. لذلك فإنّ ما يُدفن تحت أنقاض غزّة اليوم ليس عشرات ألوف الأبرياء فحسب، بل أيضاً بقايا المعنى الإنساني، ما يدفعنا إلى طرح سؤال جوهريّ حول مصير العالَم نفسه.


كيف أثّر العدوان على حياتك اليومية والإبداعية؟
لا يُمكن لمَن في نفسه ذرّة عقل وعاطفة أن يُشاهد يوميّاً، على مدى شهور متواصلة، حفلة الإعدام المُمنهَجة هذه، ويُتابع حياته كالمعتاد. على المستوى الشخصي، أبذل جهداً كبيراً، كلّ يوم، للقيام بأبسط النشاطات والأعمال التي اعتدتُ القيام بها. كيف لا وأمامنا، بالصورة والصوت، كلّ هذا القتل وكلّ هذا الصمت الدوليّ المتواطئ القائم على حسابات ومصالح لا مكان للإنسان فيها. يلزمنا وقتٌ طويل لاستيعاب هذه الحرب من جوانبها المختلفة وأثرها البالغ وانعكاساتها العميقة.


إلى أي درجة تشعر أن العمل الإبداعي ممكنٌ وفعّال في مواجهة حرب الإبادة التي يقوم بها النظام الصهيوني في فلسطين اليوم؟
ما في استطاعة الإبداع أن يفعل أمام قنبلة تُفتِّت البشر والحجر والحديد الصَّلب؟ مع ذلك، رسمَ بيكاسو لوحة "غيرنيكا"، وزوران موزيتش، الوجوهَ النحيلة التي أكلها الجوع والألم. الإبداع المُرَوِّع الذي يطالعني الآن هو ما يعبّر عنه الناجون الذين ما زالوا يعيشون في مكان انتفى فيه الحدّ الفاصل بين الحياة والموت. لا تُفارقني أصوات الأطفال الذين فقدوا آباءهم وأمّهاتهم. لا تُفارقني العبارات التي يتلفّظون بها وأُدوِّن الكثير منها، وأشعر أنّها تختصر سجِلَّ الحروب والمآسي على مرّ العصور. أسمع الطفل الذي فقَدَ قدميه يسأل الطبيب إن كانتا ستنموان من جديد. أسمعُ الفتاة التي تقول إنها تعرّفت إلى والدتها من ضفيرة شعرها بين الأنقاض، والطفلة الجريحة التي تتساءل إن كان ما تعيشه حقيقة أم حلماً! من واجب المُبدع أن يدحض حملات التزوير التي سقط فيها عددٌ مُهمّ من كبريات وسائل الإعلام العالميّة. في زمن الحروب، عندما يُصبح العيش مسألة حياة أو موت، أليست النزعة الإنسانية المُهدّدة بالانقراض هي أيضاً فعلُ إبداع لا يستقيم من دونه أيّ إبداع آخر؟ 

ما يُدفن تحت أنقاض غزّة اليوم هي بقايا المعنى الإنساني


لو قيّض لك البدء من جديد، هل ستختار المجال الإبداعي أم مجالاً آخر، كالعمل السياسي أو النضالي أو الإنساني؟
أختار الإبداع لأنه مرادف للأمل، ولأنه يؤكّد أنّ في مقدور الإنسان أن يفعل شيئاً آخر غير الحروب، ولأنني، من خلال المشروع الإبداعي، أسعى إلى تغيير نفسي أوّلاً. مهمّة المثقّف في مثل هذه الظروف هو أن يشهد بموضوعية وينتصر للحقّ والعدالة انتصاره للجمال، وأن ينحاز إلى العقل لمواجهة غرائز الكراهية والموت التي تعود بنا إلى أزمنة سحيقة لم تعرف البشريّة بعدُ كيف تتخلّص منها مرّةً واحدة وأخيرة. 


ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟
أن يتوقّف تزييف الحقائق الأساسيّة للعِلم والأدب والفنّ، وأن تُردَم الهُوّة بين البُعد الإنساني والتطوّر العِلمي والتكنولوجي. لقد تابعتُ منذ البداية تأثير هذه الحرب على الحياة الثقافية والإبداعية في الغرب، وتأكّد لي ثانيةً من هُم الذين يستأثرون بالقسم الأكبر منها، وكيف يُوَظِّفونه في السياسة بدلاً من وضعه في خدمة الإنسان وارتقائه. ولئن كان الوعي الشعبي المتزايد الآن للقضية الفلسطينية بداية التغيير، فلا بدّ من زيادة هذا الوعي وترسيخه ليصبح قادراً على تشكيل ثقل سياسي فعلي يساهم في التخفيف من الظُّلم، وإيجاد حلول قائمة على العدل والمساواة، ووضع حدٍّ للجُرح الذي ينزف منذ خمسة وسبعين عاماً، ويهدّد بمضاعفاته المنطقة كلّها والعالم أجمع. 

ستعودون إلى مدارسكم ومنازلكم، أنتم رسالة الغد والمستقبل


شخصية إبداعية مقاوِمة من الماضي تودّ لقاءها، وماذا ستقول لها؟ 
صوتٌ مُبدع كلُّ صوت يُدافع عن الحرّية وحقوق الإنسان والقضايا العادلة. نيلسون مانديلا هو أحد هذه الأصوات، وأحد رموز الصمود والأمل، وهو القائل: "لا تكتمل حرّيتنا من دون حرّية الفلسطينيّين".


كلمة تقولها للناس في غزّة؟
ماذا أقول لهُم وهُم الذين يعلّموننا كلّ يوم معنى الأمل في المستقبل رغم كلّ الفظائع والتضحيات؟


كلمة تقولها للإنسان العربي في كلّ مكان؟
أن يتعلّم وينتصر للعقل، لأنّ الجهل احتلال ومقاومة الجهل شرط ضروري لمقاومة أيّ احتلال آخر.


حين سُئلت الطفلة الجريحة دارين البيّاع التي فقدت معظم أفراد عائلتها في العدوان، ماذا تريدين من العالم، أجابت "رسالتي للناس إذا بيحبوا دارين يكتبوا لي رسالة أو أي إشي".. ماذا تقول لدارين ولأطفال فلسطين؟
لدارين ولأطفال فلسطين: أنتم رسالة الغد والمستقبل. ستنزلون قريباً عن الصليب وستعودون إلى مدارسكم ومنازلكم، وستكون دماء شعبكم هي الطريق لعودتكم إلى الحياة.



بطاقة
كاتب وشاعر لبناني مُقيم في باريس. درس في "جامعة السوربون" وحاز منها على شهادة الدكتوراه في الأنثروبولوجيا الثقافية والاجتماعية. صدر له في الشعر مجموعات عدّة، من بينها: "نجمة أمام الموت أبطأت"(1981)، "تماثيل في وضح النهار" (1984)، و"عُزلة الذهب" (1992)، و"هيامات" (1993)، و"عين السراب" (2000)، و"رسالة إلى الأختين" (2004) وحاز عنه جائزة "ماكس جاكوب" الشعرية عام 2009، و"مدينة في السماء" (2012)، و"نامت أحلامهم وتأرجحت على الموج" (2016)، و"أقنعة الغربة" (2018)، و"ما سوفَ يبقى" (2019). من ترجماته: "مهاجر بريسبان" (2004)، مسرحية لجورج شحادة، و"غابة الحبّ فينا" لأدونيس (عن العربيّة، 2009)، بالاشتراك مع فينوس خوري غاتا، و"فان غوغ: مُنتحِر المجتمع" (2021) لـ أنطونان أرتو. كما أصدر مجموعة دراسات نقديّة، من بينها: "بيروت أو الافتتان بالموت" (بالفرنسية، 1988)، و"البتراء: كلام الحجر" (1993)، و"الأحلام المشرقية: بورخس في متاهات ألف ليلة وليلة" (1996)، و"تفّاحة الفردوس: تساؤلات حول الثقافة المعاصرة" (2006)، و"ضفاف أُخرى" (2021).

مع غزة
التحديثات الحية
المساهمون