تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أيام العدوان على غزّة وكيف أثّر على إنتاجه وحياته اليومية، وبعض ما يودّ مشاركته مع القرّاء. "المُبدع بلا رؤية سياسية أو نضالية أو إنسانية يشطح في كلام أو فعل عمرُه قصير مهما طال"، يقول الباحث المغربي.
■ ما الهاجس الذي يشغلك هذه الأيام في ظلّ ما يجري من عدوانِ إبادةٍ على غزّة؟
- ما يشغلني في هذه الأيام شؤونٌ خاصّة، وأُخرى عامّة. فأمّا الخاصّة فتتعلّق بعملي، وبمسيرتي التعليمية، وقد أمضيتُ في الفصول خمسةً وثلاثين عاماً، في مهنة أعشقها، ولن أكون مبالغاً إن قلتُ إنّني أراها من أنبل المهن وأشرفها؛ تضرب بجذورها في الأرض، وتطاول ثمارها عنان السماء، وويلٌ لأمّة تخالها من سقط المتاع؛ فتزري بمعلّمها ومتعلّمها. وأمّا العامّة فتتعلّق بـ قضيّة فلسطين بالدرجة الأُولى؛ إذ إنّ ما يحدث في غزّة، ويطاول الضفّة الغربية أيضاً، إبادةٌ جماعية لم يسبق لها مثيل، وهي تقع على مرأى ومسمع من العالَم بأكمله. وإنّ الخاصّ والعامّ في هذا المقام ليرتبطان ارتباطاً وثيقاً؛ فهذا من ذاك، وذاك من هذا.
■ كيف أثّر العدوان على حياتك اليومية والإبداعية؟
- كنتُ قد دوّنتُ أوّل تدوينة على صفحتي، بعد ثلاثة عشر يوماً من بداية "طوفان الأقصى"، قلتُ فيها: "إنّا نحزن، نتألّم، نستشعر 'السهر والحمّى'، ونحن نشاهد، نردّد: 'ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ/ زُغب الحواصل لا ماء ولا شجر؟'، نحاول أن نمحو عنّا آثار 'غثاء السيل'... ولكنْ في الوقت نفسه علينا أن نستوعب أنّ الآيات تتجسّد في غزّة، قدَرٌ ينسج جذور الرؤية من جِدّة؛ فغيِّرْها؛ شعْبٌ أبيٌّ، صامد، متيقّن من العدل الإلهيّ، 'وكان حقّاً علينا نصر المؤمنين'؛ صاحب حقّ تتكالب عليه أُمم قيل إنّها 'متحضّرة'. سقطت آخر أوراق التوت. فيا مسلم؛ ادْعُ... انفِرْ... لا تثّاقل إلى الأرض؛ فحتى الكلمة صادقة تشطب من نفسك آثار الوهن". كتبت التدوينة، وأنا أحمل الشعورين، سالفَي الذكر، معاً في كلّ كلامي.
من الغزّيّين نتعلّم قيم الإنسانية بأقدس معانيها
■ إلى أي درجة تشعر أن العمل الإبداعي ممكنٌ وفعّال في مواجهة حرب الإبادة التي يقوم بها النظام الصهيوني في فلسطين اليوم؟
- العمل الإبداعيّ، على وجه الخصوص، رسالة؛ تبدع، وتغرس وعياً في العقول والنفوس. وإنّني من الناس الذين يؤمنون يقيناً أنّ سبيل تحرُّر الأُمم إنما يكمن في معرفة حقيقية يُبذل فيها الغالي والنفيس. لا يُبخل في حقّها، ولا تُبخس أشياؤها بالهمز واللّمز، والانتقاص من قيمتها، وتوهُّم أنه قد تقوم لنا قائمة في غيابها. لماذا ذلك كذلك؟ لأنّنا نعتقد أنّ المعرفة الحقّة التي تحتلّ سُلّم الأولويات هي رصيدُ الوعي، وهي خزّان فهم الكون في أبعاده المتعدّدة؛ في الحرب، وفي السِّلم، وفي وضع الأمور، كبيرها وصغيرها، في مواضعها، وفي استيعاب من نحن، وماذا نريد، وإلى أين نسير، يكبر مثلنا الأعلى ويشمخ، ويعمر الأرض، ويؤدّي الأمانة؛ من خلال أفعال تربَأ بنفسها أن تكون أفعالَ هُوجٍ، "قفزاتِ" "مُنبَتٍّ لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع".
■ لو قُيّض لك البدء من جديد، هل ستختار المجال الإبداعي أو مجالاً آخر، كالعمل السياسي أو النضالي أو الإنساني؟
- ما أعتقده في حقيقة الأمر هو أنّ هذه الكلمات/ المصطلحات التي اشتمل عليها السؤال، لا تؤدّي وظيفتها وكأنّها في جُزر متفرّقة، لا يمتّ أحدها إلى غيره بِصلة؛ وإنّما تُذكر "متفرّقة" من باب تقسيم المهامّ، والتعاون في أدائها لا غير. فالمُبدع بلا رؤية سياسية، أو نضالية، أو إنسانية، يشطح في كلام أو فعل عمرُه قصير مهما طال، وتأثيره أحاديّ الجانب مهما نفخ فيه صاحبه، أو نفخ فيه غيره. والأمر سيّان بالنسبة إلى السياسي أو الإنساني الذي لا زاد لهُ من إبداع بمعناه الإنساني حقّاً، وليس أكبر غاياته سلطة قاهرة يمتلكها ليستبدّ ولو لحين، أو مصلحة مادّية يتعالى بها على أبناء وطنه وأمّته وجنسه. ورفعته وبقاؤه إنّما ضامنهما الشمولية، وتجاوز موطئ القدم.
■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟
- تعلم أنّ ما يُسمّى بما بعد الحداثة من بين سماتها، كما لدى كثيرين، الصيرورة، ونهاية السرديّات الكبرى، و"صِفريّة" (من الصفر) ما يسند ظهر الإنسان من قِيم، ومبادئ، مشتركة تكون صمّام الأمان حينما تتغوّل بعض المافيات المالية، والسياسية، وسدنتها من "المثقّفين" و"المفكّرين"، على باقي الخَلق. وها هُنا، بالضبط، يجب أن يتجاوز الكاتب في أيّ مجال الآفاق الضيّقة التي تقول بالخصوصية الشوفينية، أو الكونية التي هي في حقيقة أمرها تقليد وتَبعية لبعض الناعقين، وتمركُزٌ حول ما يرونه هُم "كونيّة"، ويُقصون كلَّ مُخالف، أو قائل بغير قولهم. وفق هذا المنظور كَمْ أتطلّع إلى أن يسود السلام بمعناه الحقيقي، والأفكار التي تنقذ البشرية جمعاء، وليس التكالُب على المستضعفين، واللعب باللغة... وإنّ واجبنا - نحن العرب، وباقي المكوّنات الثقافية الأُخرى، والمسلمين عامّة - لهُوَ فرضُ عين وليس مجرّد فرض كفاية يقوم به بعض المتميّزين، ويسقط عن الباقي. الحِمل ثقيل، والعقبة كأداء، ولكنّ لا مفر من ذلك.
لا كلمات تُوفي ما يبذله أولئك المرابطون الشجعان حقه
■ شخصية إبداعية مقاوِمة من الماضي تودّ لقاءها، وماذا ستقول لها؟
- الحقَّ أقول، حتى لا أغمط مجموعةً من الشخصيات قديمة وحديثة، هُم كثيرون، ولكن إن كان لا بدّ من التعيين فسأكتفي بشخصية واحدة، تلك هي شخصية الرئيس البوسني السابق علي عزّت بيغوفيتش. فهو مثال الرّجل المفكّر الرصين، والمناضل الثابت الذي ذاق مرارة السجن على كبر في سبيل دينه ومبادئه. لم يُطَأطِئ، ولم يترك يوماً يمرّ دون أن يكتب شيئاً. فهل يجهل أحد كتابه: "هروبي إلى الحرّية"، الذي هرّب شذراته من سجنه بطريقة تبعث على الدهشة؟ ثم هل يجهل أحد ذاك الزخم من موضوعات الكتاب التي فيها تفكُّر وتفلسُف وأدب وحنكة سياسية وقِيم قلّ أن تجدها لدى غيره؟ ثم هل يُجهَل أحد كتابيه: "سيرة ذاتية وأسئلة لا مفرّ منها"، و"الإسلام بين الشرق والغرب"؟ تخيّل إذاً؛ رئيس ومفكّر ومناضل وإنسان! أقول له: تغمّدك الله بواسع رحمته، وجعل كلّ ما بذلت من عمرك وكلماتك في ميزان حسناتك، وبارك ما خطّت يمينُك.
■ كلمة تقولها للناس في غزّة؟
- والله إني لأستحيي من نفسي ولا أجد كلماتٍ تُوفي ما يبذله أولئك المرابطون الشجعان، من أصغر واحد فيهم إلى أكبرهم، حقّه ولو بأقلّ القليل ممّا يبذلون، ويضحّون، ويتحمّلون في زمن الظلم العالميّ جهاراً نهاراً، ولا تغرنّك الشعارات، وتوهمنّك العبارات من قبيل: "الوضع خطير"، و"يُثير القلق"... الكلمات التي صرتُ أمقتها، أي هي كلمات تكتفي بالوصف لا تتعدّاه قيد أنملة، أو تضحك على الأذقان، ولا يوافق باطنُ قائلها ظاهره. أقول لهم: إنّا منكم نتعلّم كلّ قيم الإنسانية بأقدس معانيها، فأنتم تصنعون التاريخ من جديد، وإنكم لتُغيِّرُنّ الرؤى من العماء إلى الاستبصار؛ أفَطِنَ مَن فطن، أم ضلّ من كان سادراً في جهله وعميائه على حاله. لكم الله أولاً وآخراً.
■ كلمة تقولها للإنسان العربي في كلّ مكان؟
- أقول للعرب: أنتم قلب الأمّة الإسلامية؛ لساناً، وجغرافيا؛ فكونوا على قدر الأحداث، واعين بما يُحيط بكم، مستوعبين ما يُحاك لكم؛ في الخفاء، وفي العلن. انشروا العِلم في بلدانكم، واحذروا كلّ آزف من الملهيات؛ فالتجهيل والتسلُّط والظلم... عواقبها وخيمة على أصحابها بدءاً. لا تستخفّوا بما يُمكنكم أن تقولوه أو تفعلوه من خير فتركنوا إلى التسويف والتعطيل والموت. وإنّما حياتكم في أن تكتسبوا إرادات حرّة تمكّنكم من أداء رسالتكم العُظمى. فأمثالكم - على سبيل المثال لا الحصر- تحرّك الجماد، "إنّما أُكلت يوم أكل الثور الأبيض"، وثقافتكم بصفة عامّة تُحيي الموات؛ فلا تجعلوها مجرّد "ظاهرة صوتية".
■ حين سُئلت الطفلة الجريحة دارين البيّاع التي فقدت معظم أفراد عائلتها في العدوان، ماذا تريدين من العالم، أجابت "رسالتي للناس إذا بيحبوا دارين يكتبوا لي رسالة أو أي إشي".. ماذا تقول لدارين ولأطفال فلسطين؟
- يا دارين، ويا أخواتها وإخوانها، يا من قُدّر لكم أن تنضجوا قبل الآوان، وأن تدفعوا أثماناً باهظة بلا ذنوب اقترفتموها، سوى أنّكم من شعب يُريد أن يحيا حياة عزّة وكرامة في وطنه، لكن يأبى العالَم إلّا أن يظلمكم؛ بالكلام أو بالصمت، أنتم الأعلَون. هذا يقينُكم قبل أن يكون يقيني؛ لأنّني إنّما تعلّمته منكم، ويتعلّمه كلّ حرّ أبيّ من شعوب العالَم. لكُم الرِّفعة والشموخ، ولمن تباطَأ عن نصرتكم، أو لا يَرِدُ مصطلحُها ضمن مُعجمه، أو فعله، له الخزيُ والعار. والأيام دُول. تقبّلي يا دارين ومن معك كلماتي هذه، وأنا الذي لا حيلة ولا قوّة لي إلّا كلمات أدفع بها اليأس، لأنّني أستمدّ ذلك من صمودكم الأسطوري. بوركتم، وبوركت كلّ حركة تقومون بها، وكلّ كلمة تتفوّهون بها، "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون".
بطاقة
باحثٌ مغربي حائز درجة الدكتوراه في الأدب العربي من "جامعة الحسن الثاني" بالدار البيضاء. يعمل باحثاً في "مركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية" بوجدة. من مؤلّفاته: "مشروع أدونيس الفكري والإبداعي: رؤية معرفية" (2008)، ومن ترجماته: "في القبّالة ورمزيّتها" (2021) لِجيرشوم شوليم، و"فالتر بنيامين وجيرشوم شوليم: مراسلات 1932 - 1940" (2023). صدر له العديد من الدراسات في مجلّات عربية محكّمة.