مع غزّة: حسام الدين درويش

25 مارس 2024
حسام الدين درويش
+ الخط -
اظهر الملخص
- الباحث السوري يشارك تجربته الشخصية والإبداعية تحت تأثير الأحداث في غزة، مؤكدًا على تأثير القضية الفلسطينية في حياته وأعماله الفكرية والإبداعية.
- يركز على دور العمل الفكري والإبداعي في مواجهة الظلم والعدوان، معتبرًا أنه يمكن أن يحقق التغيير والتأثير الإيجابي في دعم المستضعفين والمظلومين.
- يؤكد على أهمية الحفاظ على الإنسانية والضمير في كل تعامل، معبرًا عن تضامنه مع أهل غزة وضرورة استخدام الأدوات الفكرية والإبداعية لفهم الواقع والتأثير فيه إيجابيًا.

تقف هذه الزاوية مع مبدعٍ عربيٍّ في أيام العدوان على غزّة، وكيف أثّر على إنتاجه وحياته اليومية، وبعض ما يودّ مشاركته مع القرّاء. "العمل الفكري الإبداعي سياسيٌّ، بقدر ما يتناول قضايا عالمه، ويتخذ منها موقفاً" يقول الباحث السوري لـ "العربي الجديد".


ما الهاجس الذي يشغلك هذه الأيام، في ظل ما يجري من عدوانِ إبادةٍ على غزّة؟
بوصفي كاتباً، إنّ الهاجس الأساسي الذي يشغلني في هذه الأيام هو كيف يمكننا أن نحتفظ بعقلنا وبضميرنا ونستخدمه ونوظّفه لفهم ما يجري في الواقع، وللتأثير الإيجابي فيه، لمصلحة المستضعفين عموماً، وفي غزّة وفلسطين خصوصاً. فمنذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، وفقدان العقل والضمير هو السمة السائدة أو المُهيمنة في هذا العالم. وظهر ذلك لدى الكثير من الأطراف، الدولية والمحلية، المؤسّساتية والفردية، الغربية والعربية، النخبوية والشعبية ... إلخ. وتجلى فقدان العقل المذكور في صيغتين أساسيّتين: الأولى تمثّلت في الممارسات الوحشية الإبادية ضد المدنيّين، من جهةٍ، وتأييد هذه الممارسات، أو السكوت عنها، بصفاقةٍ قلّ نظيرها، من جهةٍ أُخرى. أمّا الثانية فتجلّت في ردود الفعل المتطرّفة (السلبية)، أو في الشعور بعدم التصديق والعجز عن الفهم: كيف يمكن أن يحدث ما يحدث؟ كيف يمكن لمثل هذه الجرائم الكثيرة والكبيرة أن تحدث بهذه الطريقة الوحشية الفاضحة؟ وكيف امتلكت بعض الأطراف القدرة الوقحة على إعلان تأييدها، المباشر أو غير المباشر، لمثل هذه الجرائم، وللأطراف التي تقترفها؟


كيف أثّر العدوان على حياتك اليومية والإبداعية؟
أصبحت القضية الفلسطينية، والصراع العربي الفلسطيني الإسرائيلي أكثر حضوراً في حياتي اليومية، الخاصّة والعامّة، وفي العلاقات واللقاءات الاجتماعية والمهنية، على حدٍّ سواءٍ. وبوصفي أعيش في ألمانيا – صاحبة الموقف الرسمي الأسوأ تقريباً في هذا الخصوص – وأعمل في مؤسساتها الأكاديمية، وأحمل جنسيّتها، ولديّ الكثير من العلاقات والصداقات فيها، فقد أجريت حواراتٍ عديدةً، شفاهيةً وكتابيةً مع عددٍ من الأشخاص في ألمانيا، ونُشرت بعض هذه الحوارات باللغتين الألمانية والعربية. وبوصفي كاتباً، تمحورت معظم نصوصي المنشورة، في هذه الفترة، حول القضية الفلسطينية والصراع مع الاحتلال الإسرائيلي. وستُنشر تلك النصوص في كتابٍ قريباً.

فقدان العقل والضمير سمة سائدة ومُهيمنة في العالم


إلى أي درجة تشعر أنّ العمل الإبداعي ممكنٌ وفعّال في مواجهة حرب الإبادة التي يقوم بها النظام الصهيوني في فلسطين اليوم؟
في مثل هذه الظروف العصيبة والصعبة، تزداد محفّزات الكتابة والإنتاج الفكري والإبداعي عموماً، وتزداد صعوبة ذلك، في الوقت نفسه. وبين ذلك التحفيز، وتلك الصعوبة، ينوس العمل الإبداعي فيزداد حجم نتاجه حيناً، وينكفئ حضوره حيناً آخر. ويصعب الحديث عن إمكانية أن يكون العمل الإبداعي فعَّالاً في مثل هذه السياقات. لكن، حتى إذا انعدم الجدوى من العمل الإبداعي الفكري، فإنّ ذلك العمل يمكن أن يسهم في إنتاج المعنى والحفاظ عليه. والمعنى هو أهمّ ما يبقى بعد حصول الحدث، ومُضي الماضي. ويمكن لإنتاج هذا المعنى، والحفاظ عليه، أن يسهما في الفاعلية التي يبدو، لوهلةٍ أو أكثر، أنّ العمل الإبداعي الفكري يفتقدها.


لو قيّض لك البدء من جديد، هل ستختار المجال الإبداعي أو مجالاً آخر، كالعمل السياسي أو النضالي أو الإنساني؟
المجال الفكري الإبداعي أصبح جزءاً من هويّتي أو ماهيتي، أو هو كذلك دائماً، وفقاً لانطباعي عن نفسي. وانطلاقاً من ذلك، أرى أنّ من غير المناسب لي أن أكون في غير المجال الذي أنا فيه، وليس مناسباً للمجالات المذكورة أن أكون فيها، لكن يمكن للعمل الفكري الإبداعي أن يحمل سمات الأعمال الأخرى – سمات العمل السياسي والنضالي والإنساني – أو أن يكون سنداً لها، من دون أن يختزل نفسه في أيٍّ منها. والعمل الفكري الإبداعي سياسيٌّ، بقدر ما يتناول قضايا عالمه، ويتخذ منها موقفاً مباشراً أو غير مباشرٍ؛ وهو نضاليٌّ، بقدر ما يتبنى، صراحةً أو ضمناً، قيماً ومُثلاً وغاياتٍ، ويسعى إلى تطبيقها وتحقيقها. وهو إنسانيٌّ بالمعنيين، السياسي والإنساني، المذكورين، وبمعانٍ أُخرى كثيرةٍ أيضاً.


ما التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟
يبدو لي أنَّ التغيير الذي أنتظره او أتوقّعه غير ذاك الذي أريده. فما أريده لهذا العالم، ومنه، ظلماً أقل و/ أو عدالةً أكثر، في حين أن ما يحصل في هذا العالم يشير إلى أنّه يسير في اتجاهٍ مناقضٍ لذلك. وازدياد قدرة القوى المهيمنة على التحكّم والسيطرة يتسارع ويتعاظم بدرجةٍ أكبر من ازدياد قدرة المقاومة لها على الحدّ من ذلك التحكّم وتلك السيطرة. وأخشى أننا نتّجه إما إلى نظامٍ يزداد قسوةً وجوراً، أو إلى فوضى أكثر عبثيةً وسلبيةً. وعلى الرغم من كلّ ما سبق، وبسببه، أرى ضرورة السعي إلى جعل هذا العالَم أفضل، أو أقل سوءاً، على الأقل.

في عالمٍ يفتقر إلى المعنى والقيمة أطفال فلسطين هم المعنى


شخصية إبداعية مقاوِمة من الماضي تودّ لقاءها، وماذا ستقول لها؟ 
عروة بن الورد هو إحدى تلك الشخصيات التي أودّ لو كان بالإمكان لقاؤها. فقد قاوم مظالم النظام الذي كان يعيش فيه، وخرج عنه وعليه، وحاول إصلاح الأضرار المترتّبة عليه. وكان يسعى إلى تحقيق العدالة الاجتماعية بطريقته المبدعة الخاصة، فكان ينتصف للضعيف من القوي، وللمظلوم من الظالم، وللفقير من الغني ... إلخ. لم يكن تمرّده مجرد انفعالٍ أو رد فعلٍ منفعلٍ أو نفورٍ من واقعٍ جائرٍ قائمٍ، بل كان سعياً فاعلاً إلى تطبيق مبادئ أخلاقيةٍ ساميةٍ، وتحقيق غاياتٍ إنسانيةٍ نبيلةٍ. لقد قاوم عروة النظام القائم في زمانه بإبداع نموذجٍ بديلٍ أفضل منه. فلم يستمد شرعية أفعاله وأقواله من سوء النظام وسلبياته فحسب، بل استمدّها خصوصاً أيضاً من إيجابيات البديل الذي قدّمه وعمل على تحقيقه. ولو كان بالإمكان أن يسمعني، لقلت له: "شكراً يا عروة، شكراً يا بن الورد، وربّما يهمك ويسرّك أن تعلم أنّه ما زال هناك من يقدّرك ويقدّر صنيعك حتّى الآن".


كلمة تقولها للناس في غزّة؟
ليس لدى الكثيرين غير الكلمات للتعبير عن مشاعرهم ومواقفهم تجاهكم. قد لا يهمكم (كثيراً) أن تعرفوا أنَّ الكثير من البشر، وعلى الأرجح أغلبهم، من الشرق والغرب، ومن الشمال والجنوب، من العامّة والنخبة، ومن كل الأديان والإثنيات والأعراق والقارات، متضامنون معكم ورافضون للظلم الوحشي الواقع عليكم، لكنّ كثيرين ممن أعرفهم (من "الأجانب")، يهمّهم أن تعلموا بأمر هذا التضامن وذلك الرفض. وبوصفي سوريّاً، أود أن أخبركم أنَّ الظلم ليس له جنسيةٌ، وأنَّ السوريين، ومنهم الفلسطينيون السوريون، قد عانوا همجيةً أسديةً مماثلةً للهمجية الإسرائيلية التي تتعرّضون لها أنتم حاليّاً، وربّما كانت أشد مضاضةً. ولهذا، فمعظمنا، يُدرك، ربّما أكثر من غيرنا، مدى معاناتكم وفداحة الظلم الواقع عليكم، وضرورة الوقوف ضدّ  الظالم مع المظلوم، بغض النظر عن كلّ الانتماءات والحسابات الضيقة.

العمل الفكري سياسيٌّ بقدر ما يتناول عالمه ويتخذ موقفاً


كلمة تقولها للإنسان العربي في كلّ مكان؟
الإنسان العربي، هو، أولاً وقبل كلّ شيءٍ، إنسانٌ، بالمعنى المعياري للكلمة، وينبغي ويؤمل أن يبقى كذلك، بعد ذلك الكل، أيضاً. وبقاء الإنسان العربي إنساناً، يعني أن يُعامل على أنّه كذلك، سواءٌ من "إسرائيل" – التي وصفت الفلسطينيّين بـ"الحيوانات البشرية"، وعاملتهم، بالفعل، على أنهم كذلك – أو داعميها من الحكومات الغربية، أو من السلطات (العربية) المُستبدة التي تحكم هذا الإنسان في فلسطين، أو في غيرها من مناطق العالم العربي. فالإنسان العربي مضطرٌ إلى بذل جهودٍ أكبر من جهود كثيرين غيره للحفاظ على إنسانيته. ففي المواجهة الجبهية مع الوحوش، تكون المهمة الأولى والأصعب للإنسان هي عدم التحوّل إلى وحشٍ، بدعوى ضرورة ذلك ومشروعيّته، في مواجهة الوحوش.


حين سُئلت الطفلة الجريحة دارين البيّاع التي فقدت معظم أفراد عائلتها في العدوان، ماذا تريدين من العالم، أجابت "رسالتي للناس إذا بيحبوا دارين يكتبوا لي رسالة أو أي إشي".. ماذا تقول لدارين ولأطفال فلسطين؟
كلُّ الناس يحبّون دارين، يا صغيرتي، لكنّهم ربما لا يجدون الكلمات المناسبة للتعبير عن ذلك الحب. لا يليق بك مجرد "أي إشي"، بل يليق بك "كل إشي" حلو وجميل. أتخيّل، الآن، أنّك قد تقرئين هذه الكلمات، وأتخيّل وأتأمّل أنّك قد تشعرين بأن لها معنى وقيمة وأثراً ما. ويمكن لمجرد ذلك التخيُّل والتأمّل أن يجعل لكلماتي معنىً وقيمةً وأثراً طيباً في نفسي. في عالمٍ يفتقر إلى المعنى والقيمة أكثر فأكثر، يمكن لك يا صغيرتي أن تكوني خالِقة المعنى، أو أن تكوني أنت نفسكِ المعنى ذاته. وفي هذا مسؤوليةٌ كبيرةٌ، بلا شك. لكن هذا هو، للأسف، قدر كل الشخصيات الملحمية والأسطورية.


بطاقة

كاتب وباحث وأكاديمي سوري من مواليد حلب عام 1971. صدر له ثمانية كتب، منها: إشكالية المنهج في هيرمينوطيقا بول ريكور وعلاقتها بالعلوم الإنسانية والاجتماعية: نحو تأسيس هيرمينوطيقا للحوار" (2016)، و"نصوص نقدية في الفكر السياسي العربي والثورة السورية واللجوء" (2017)، و"في المفاهيم المعيارية الكثيفة: العلمانية، الإسلام (السياسي)، تجديد الخطاب الديني" (2022)، "في فلسفة الاعتراف وسياسات الهوية" (2023).

مع غزة
التحديثات الحية
المساهمون