مع غزّة: جودت فخر الدين

18 فبراير 2024
جودت فخر الدين
+ الخط -

تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أيام العدوان على غزّة، وكيف أثّر في إنتاجه وحياته اليومية، وبعض ما يودّ مشاركته مع القرّاء. "أطفال فلسطين الذين سيكبرون لن يكون للعالم مستقبلٌ من دونهم"، يقول الشاعر اللبناني.



■ ما الهاجس الذي يشغلك هذه الأيام في ظلّ ما يجري من عدوانِ إبادةٍ على غزّة؟

- الوحشية التي ظهرت في حرب الإبادة ضدّ الشعب الفلسطيني تذهب بالمرء إلى التفكير في معنى الوجود البشري، وفي جدوى هذا الوجود. لقد بلغت هذه الوحشية حدوداً تفوقُ التصوّر. لقد باتت القضية الفلسطينية، بما تنطوي عليه من عذاباتٍ وصمودٍ وكفاح، سؤالاً وجودياً يطرح نفسه على العالم كلّه، وعلى جميع أصناف البشر.


■ كيف أثّر العدوان في حياتك اليومية والإبداعية؟

- لقد أثّر ذلك في حياتي على نحوٍ مباشرٍ وعميق. أشعر بأنّني في قلب الأحداث التي تجري في غزّة وفي الجنوب اللبناني. أنا مقيمٌ في بيروت، وقد ذهبتُ خلال الحرب ثلاث مرّاتٍ إلى قريتي في الجنوب لكي أتفقّد بيتي، وأنا الذي كنتُ قبل الحرب أذهبُ (مع عائلتي) إليها كلَّ أسبوع. هذه القرية التي تعيش الآن الخطرَ والتهديدَ المستمرّيْن هي المكانُ الأثيرُ لديّ. هي مكاني الأوّل والأخير. هي المكان الذي يُلهمُني أكثرَ من غيره، والذي دأبتُ في شعري على تأليفه وتجديده وإعادة تأليفه في استمرار. وفي زيارتي الأُولى له خلال الحرب، كتبتُ قصيدةً عبّرتُ فيها عن جانبٍ مما أعيشُهُ وأكابدُهُ في هذه الأيام.


■ إلى أي درجة تشعر أن العمل الإبداعي ممكنٌ وفعّال في مواجهة حرب الإبادة التي يقوم بها النظام الصهيوني في فلسطين اليوم؟

- هو فعّالٌ في المستوى الشخصي، بالنسبة إلى صاحبه على الأقلّ. ولكنْ في مواجهة الحرب، ليس له في رأيي فعاليةٌ ماديةٌ أو مباشرة، وإنما قد يكون له تأثيرٌ في تكوينِ الوجدانِ العام، المناهضِ لوحشيةِ الإبادة، والمستنهضِ ضميرَ العالم.

أطفالُ فلسطين أشاروا بأصابعهم الطرية إلى مستقبل العالم

■ لو قُيّض لك البدء من جديد، هل ستختار المجال الإبداعي أو مجالاً آخر، كالعمل السياسي أو النضالي أو الإنساني؟

- لا أتصوّرُ نفسي إلّا في مجال الأدب، وبالأخصّ في مجال الشعر والكتابة الشعرية. وهذا المجال يحتضن السياسةَ والنضالَ والتجاربَ الإنسانيةَ على أنواعها.


■ ما التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟

- ما أنتظره شيء، وما أريده أو أتمنّاه شيءٌ آخَر. أتمنّى أن تسودَ العالَمَ قِيَمُ العدالة والمساواة والتفاعل الحقّ بين البشر، بدلاً من الظلم والفساد والتعصّب والهيْمنة التي سادت وتسودُ في عالمنا. واستحالةُ ما أتمنّاه يقودني أحياناً إلى اليأس، تأييداً لِما قالهُ قديماً شاعرُنا أبو العلاء المعرّي من أنّ الفساد هو من طبيعة البشر، وقد جُبِلوا عليه. وهذا واضحٌ في قوله:

وجِبِلّةُ الناسِ الفسادُ فضلَّ منْ       يسمو بحكمتِهِ إلى تهذيبِها


■ شخصية إبداعية مقاوِمة من الماضي تودّ لقاءها، وماذا ستقول لها؟ 

- أبو العلاء المعرّي. جادلَ القِيَمَ البالية في زمانه وقاومَها. وفي رأسها التعصُّبُ والاعتقادُ الأعمى. وكان أكبرَ داعيةٍ إلى التعقُّل وتفهُّم الآخَر والتفكير الحُرّ. هو في رأيي واحدٌ من أكبر العقلانيّين في تاريخنا وفي تراثنا الأدبي والفكري. ولو تسنّى لي أن ألتقيَه لسألتُه: هل كنتَ تعتقدُ بأن يأسكَ من مكافحة الفساد والتعصّب سيستمرُّ بعدَك قروناً طويلة؟ لا بل سيزدادُ ويتفاقمُ لدى العقلانيّين من أمثالك.


■ كلمة تقولها للناس في غزّة؟

- معاناتُكم هزّت الضمائر في العالم كلّه. أنتم دفعتُم وتدفعون الأثمان الهائلة دفاعاً عن حقوقكم، ونيابةً عن جميع المظلومين على هذه الأرض.


■ كلمة تقولها للإنسان العربي في كلّ مكان؟

- القضية الفلسطينية قضية العرب جميعاً. وعليهم التوحّدُ في حَمْلها وفي مواجهة أعدائها.


■ حين سُئلت الطفلة الجريحة دارين البيّاع التي فقدت معظم أفراد عائلتها في العدوان: ماذا تريدين من العالم؟ أجابت: "رسالتي للناس إذا بيحبوا دارين يكتبوا لي رسالة أو أي إشي". ماذا تقول لدارين ولأطفال فلسطين؟

- أطفالُ فلسطين الذين أودتْ بهم همجيةُ العدوّ أشاروا بأصابعهم الطرية إلى مستقبل العالم، محذّرين من استمرار القتل والاستهانة بالقِيَم الإنسانية. وأمّا أطفال فلسطين الذين سيكبرون، فلن يكون للعالم مستقبلٌ من دونهم.



بطاقة

شاعرٌ لبناني من مواليد عام 1953. يُدرّس الشعر العربي الحديث في "الجامعة الأميركية" ببيروت. صدر له حتى الآن ثلاثة عشر ديواناً، من بينها: "منارةٌ للغريق" (1996)، و"أوهام ريفيّة" (2002)، و"فصولٌ من سيرتي مع الغيم" (2011)، و"حديقة الستّين" (2016)، و"أكثر من عزلة، أبعد من رحلة" (2021)، و"هندسة تليها تقاطعات" (2022). تُرجمتْ أشعارُهُ إلى لغاتٍ أجنبية، منها الإنكليزية والفرنسية والألمانية. صدرَ مؤخّراً الجزءُ الثاني من أعماله الشعرية عن "المؤسّسة العربية للدراسات والنشر". له أيضاً في نقد الشعر: "شكل القصيدة العربيّة في النقد العربي حتى القرن الثامن الهجري"، و"الإيقاع والزمان- كتابات في نقد الشعر".

مع غزة
التحديثات الحية
المساهمون