- يؤكد على أهمية الثقافة والإبداع في مقاومة الظلم، معتبرًا العمل الإبداعي أداة لإيقاظ الضمائر ودعم القضايا العادلة.
- يعبر عن إصراره على اختيار مسار الكتابة كوسيلة لمواجهة الظلم، موجهًا رسالة أمل وتضامن لأهل غزة والعرب في مواجهة الاحتلال.
تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أيام العدوان على غزّة وكيف أثّر على إنتاجه وحياته اليومية، وبعض ما يودّ مشاركته مع القرّاء. "لا شيءَ يشغلني سوى غَزّة"، يقول الكاتب والمترجم العراقي لـ "العربي الجديد".
■ ما الهاجس الذي يشغلك هذه الأيام في ظل ما يجري من عدوانِ إبادةٍ على غزّة؟
لا شيءَ يشغلني سوى غَزّة. أجل تشغلني، أُتابعها بصبرٍ عَجيب لم أعهده من قبل. هي تعني لي طفلة تبكي هلعاً بعدما فقدت أهلها، تبكي الوحدة والفقد والألم. تختلطُ دموعها الساخنة ببقايا التّراب المنثورِ على وجهها وشعرها. غَزّة تعني لي طفلا دون العاشرة من عمرهِ بُترت قدماه، ويتمنّى أن تنبتا مرّة أخرى مثل شجرة. تعني لي أيضاً المقاوم الأنيق الذي شاعت صوره مؤخراً، يذهب للقتال كمن يذهب إلى حفل زفافه.
■ كيف أثّر العدوان على حياتك اليومية والإبداعية؟
غزّة والعدوان عليها حاضرَان معي بشكلٍ يوميّ. أقول لم تكن غزّة لوحدها، كُنّا معها ونحن هنا على بعد آلاف الأميال، نَسمع دوي القنابل في أزقتها وحاراتها، وأصوات الطائرات المُغيرة في سمائها، نَسمع مليّاً صوت الرصاص وهو يخترق الهواء، غير أنّنا نسمع في الوقت ذاته كلمة (لا) بوضوح، يطلقها المحاصرون والجياع والأطفال الذين فقدوا عائلاتهم. (لا) غير قابلة للشك أو التأويل، يطلقونها بصمود أسطوريٍّ بوجه المُحتل. اسم غَزّة لا يزال مزعجاً في بقاع وزوايا عدّة من هذا العالم، وتجاهلها مقصود ومُتعمَّد بسبب ما أحدثته من إزعاج وقلق.. وهنا تكمن البطولة.
"إسرائيل" ليست وجهة نظر، إنّها القاتلة والمُحتلة
■ إلى أي درجة تشعر أن العمل الإبداعي ممكنٌ وفعّال في مواجهة حرب الإبادة التي يقوم بها النظام الصهيوني في فلسطين اليوم؟
لابدَّ من صحوةٍ للضمائر، وهذا ما على الكاتب أن يفعله بجهد ومثابرة، وإلّا ما نفع الثقافة، ما جدواها؟ ما نفع اللغة إن لم تشيّد هرمها المعرفي لصالح الإنسان وضد اضطهاده وقمعه ومصادرة أرضه وحريته!
على المثقّف أن يكون على الدوام مُعكِّرًا لصفوِ القوى الظالمة. الثقافة هي مبدأ وموقف وليست مهنة، والإبداع هو خط الدفاع الأخير ضد التوحّش البشريّ الذي بلغ مداه في عدوان غَزّة، في تدمير بُنيَتها التحتيّة في محاولة يائسة لكسر مقاومة الإنسان وتهميش روحه. ومع هذا السياق المشحون، يُثير دور المثقف الكثير من الجدل، فهو مطالب بالمزيد من المواقف الواضحة والمبدئيّة في مواجهة الظُلم والاستبداد، وترسيخ وعيه وبصيرته حول مفهوم الوفاء والمسؤوليّة.
على الصعيد الشخصي، فلسطين بالنسبة لي هي البوصلة التي تشير دوماً صوب الحقيقة.
■ لو قيّض لك البدء من جديد، هل ستختار المجال الإبداعي أم مجالاً آخر، كالعمل السياسي أو النضالي أو الإنساني؟
حين مارست الكتابة لأوَّلِ مرّةٍ في أعوامِ مراهقتي، شعرتُ بأنَّني ساحر، إذ يمكنني تحويلُ الأوراقِ البيضاءِ الفارغةِ إلى ساحة معركة بين الكلمات. سأبقى ذلك الساحر الذي يستخدم الكتابة كأداة لتنظيف أماكن معيَّنة في قلبه، أماكن عميقة لا يمكن الوصول إليها بغير الكتابة. حتى لو بدأت حياتي من جديد، سأختار ذات المسار، وارتكب الأخطاء ذاتها. فأنا راضٍ كلّ الرضا عما عشته في حياتي برغم العثرات. إذاً، لا شيءَ بإمكانه أن يمثّلني ويتماثل معي سوى الكتابة.
يجب على المثقّف أن يعكر دائماً صفو القوى الظالمة
■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟
كلُّ ما جرى وما شهدنا يجعلنا نتطلّع بعين الرّضا إلى ما حقَّقته المقاومة، وإدراكا للحقيقة أنَّ وحدة الساحات وربط نِضالات الشعوب أصابت العدوّ وأذياله ومناصريه بالوهن والخيبة والخسران. العالم لن يتغيّر، ولن تتغيّر ازدواجية معاييره. سيبقى غارقاً في وحشيَّته وبشاعتِه واحتكاراته. نحنُ الذين علينا أن نتغيّر، أن نعي جيداً وأن ننظرَ بعينٍ رائيةٍ مُتخمةٍ بالأمل والنّصر. فبعدَ كل هذه المساحة الزمنيّة الطويلة في القتل، لا تزال غَزّة أكثر الجدران صلابة، والغُزاة المحتلون لا يفلحون بأكثر من إحداث ثقوب ينظرون منها، عَلّهم يجدون أثراً صغيراً لوهمِهم الكبير. لا لن يمروا.
■ شخصية إبداعية مقاوِمة من الماضي تودّ لقاءها، وماذا ستقول لها؟
أود لو كان جيفارا حاضراً معنا. غسان كنفاني وإدوارد سعيد وجان جينيه أيضاً.
■ كلمة تقولها للناس في غزّة؟
نتعلمُ كلَّ يومٍ منكم أعلى درجات الأمل والرغبة في الحياة. هذا درس حياةٍ عظيم لنا، نتعلَّمُ منه أنَّ "إسرائيل" ليست وجهة نظر، إنّها المتغطرسة والقاتلة والمُحتلة، والتّعامل معها بأيَّةِ صورةٍ، يندرج في خانة التآمر والعمالة والخيانة والنذالة. إذًا لا بدَّ للإنسانيّة أن تفوز، لا بدَّ للعدالة أن تنتصر.
أقول: قُم أيُّها الغزي وانفض عنك غبار الصِدامات التي ستضع لا محالة عن قريب فصلها الأخير. فلنصدق من قال إنّها أوهن من بيتِ العنكبوت.
■ كلمة تقولها للإنسان العربي في كلّ مكان؟
في معركة الكرامة في غَزّة، معركة الحياة ضدّ كلِّ صور الموت والتهميش وتمييع الهويّة والتشريد وسرقة الأرض والتاريخ،
■ حين سُئلت الطفلة الجريحة دارين البيّاع التي فقدت معظم أفراد عائلتها في العدوان، ماذا تريدين من العالم، أجابت "رسالتي للناس إذا بيحبوا دارين يكتبوا لي رسالة أو أي إشي".. ماذا تقول لدارين ولأطفال فلسطين؟
كم من الأعوام نحتاج لنعرف أنَّكِ عشت بانتظار الأمل. ستكبرين وتراهنين مثلنا على الغد. الغد القريب، وستبقين حاملة البراءة برغم الشقوق التي ملأت قلبكِ يا دراين. ستكتبين بإصبعكِ المُرتجف على ما تبقى من النوافذ المهشَّمة: فلسطين حرة. لا بدَّ لنا أن نعود بوعيٍ ثاقبٍ إلى منابِتنا، هنا لا مساومة بين الحق والباطل، بين الحقيقة والزيف.
اعترفْ أنَّ كلّ ما تبقى للوعي سوى مساحة ضيّقة للغايةِ، في امتداد مكر رأس المال المرتبط ببارونات الإعلام المُلفّق وصنّاع الحروب ومطلقي الفيروسات القاتلة، ومصممي حصارات الشعوب. هنا ينبري وعيك أيّها العربيّ وأهميته، هنا يحضر ما تبقّى من إنسانيتك.
بطاقة
كاتب ومترجم عراقي مقيم في لندن. تنوّعت كتبه بين النقد والأدب والرواية والترجمة، من بينها: "بغداد - ملامح مدينة في ذاكرة الستينات" (2002)، "الغجر ذاكرة الأسفار وسيرة العذاب" (2008)، "الهيبيز - الجنس، الموسيقى، والمعرفة المضادة" (2017)، "أجنحة في سماء بعيدة" (2021). من أبرز أعماله في الترجمة أربعة مجلدات من أعمال الشاعر اليوناني يانيس ريتسوس (ترجم ثلاثة منها بالتعاون مع عبد الكريم كاصد.