تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أيام العدوان على غزّة وكيف أثّر على إنتاجه وحياته اليومية، وبعض ما يودّ مشاركته مع القرّاء. "شهادةُ من عاشَ المأساة بقلبه"، يقول الروائي والأكاديمي المغربي في حديثه لـ"العربي الجديد".
■ ما الهاجس الذي يشغلك هذه الأيام في ظل ما يجري من عدوانِ إبادةٍ على غزّة؟
- الحقيقة لا يجدُ الإنسان الكلمات المناسبة. نحن نعيش حالة ذهول يوميّة وحالة انقسام بين إنجازات المقاومة وأعمال الإبادة. هناك مشاعر متضاربة في الأعمال، حزن كالفرح وفرح كالحزن، أو كما قال المتنبي: "ضحكٌ كالبكاء". إنَّ الهاجس الذي يشغلني منذ خمسة أشهرٍ هو أن أستفيق على انتصارٍ تاريخيٍّ يُعوِّضنا عن الهزائم المتكرِّرة خلال قرون.
■ كيف أثّر العدوان على حياتك اليومية والإبداعية؟
- حياتي اليوميّة تتردَّدُ بين متابعة الأخبار والصور المؤلمة للأطفال والنساء في غَزّة، وآلة التدمير البربريّة التي توحي لنا بأنَّ التاريخ توقف تماماً في مشهدٍ واحد هو مشهد الموت. أحاول يومياً التواصل مع الناس عبر صفحتي الرسمية على فيسبوك؛ لتحليل الوقائع وتمكين الناس من الرؤية الحضاريّة للحدث وسط التفاصيل التي قد تخطفهم، وأتواصل معهم أيضاً عبر تصوير فيديوهات لتحليل الأحداث وتقديم رؤية عن الصهيونيّة والقضيّة الفلسطينيّة، كما أكتب كتاباً جديداً عن هذه المرحلة؛ كشهادةِ من عاشَ المأساة بقلبه بعيداً عن مسرح الجريمة وغبارها.
العمل الإبداعيّ الحقيقيّ اليوم هو ما تقوم به المقاومة
■ إلى أي درجة تشعر أن العمل الإبداعي ممكنٌ وفعّال في مواجهة حرب الإبادة التي يقوم بها النظام الصهيوني في فلسطين اليوم؟
- إنَّ العمل الإبداعيّ الحقيقيّ اليوم هو ما تقوم به المقاومة، لقد أبدعت ملحمة عربيّة سوف تتناقلها الأجيال، كما تناقلت سيرة أبي زيد الهلالي، وسوف يتذكّرها الغرب كما يتذكر "إلياذة" هوميروس. أمّا دور المبدع العربي اليوم فهو الانتقال من التجريد إلى المباشرة، لأنَّ الإبداع، إذا كان شهادة، فيجب أن تكون كاملة، ويجب أن يُحدثَ المبدع العربي ثقباً في جدار الخوف، وأن ينتقل من الوسط إلى الموقع الذي يجب أن يكون فيه.
■ لو قيّض لك البدء من جديد، هل ستختار المجال الإبداعي أو مجالاً آخر، كالعمل السياسي أو النضالي أو الإنساني؟
- العمل السياسي في العالم العربي كسولٌ ومتواطئ، والعمل النضالي محظور، والعمل الإنساني محاصر. نحن اليوم نعيش بوضوح "جنازة العالم العربي"، لكنَّ العمل الإبداعي والثقافيّ عامة يظلّ خشبة الخلاص؛ لأنَّه مركز التقاطع بين الضمائر الحيّة في العالم، ويتيح لغة مشتركة تتجاوز الحدود. إنَّ أفضل خيارٍ يُمكن أن يجد فيه المثقف نفسه هو خيار الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني، كما فعل الكثير من المثقفين والمبدعين الأوروبيّين في الحرب الأهلية الإسبانيّة، عندما حمل بعضهم البندقية دفاعاً عن العدالة والحق، لكن الخيارات محدودة.
■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟
- ما أحلم به أن يستعيد الشعب الفلسطينيّ المكان الوحيد الذي يعرفه، أن يصبح سيداً في وطنه، وينتصر الخير على الشر في العالَم. لقد حلم الكثيرون قبلنا بانتصار الحريّة والعدالة، لكنَّ القوة هي التي تغلَّبت، القوة دائماً هي التي تقهر الفيلسوف والمبدع والشاعر، وهي التي تدكُّ جميع الكلمات النبيلة التي ينتجونها، لأنَّ سلطة الكراهيَة تنتصر على سلطة العقل.
■ شخصية إبداعية مقاوِمة من الماضي تودّ لقاءها، وماذا ستقول لها؟
- فيديريكو غارسيا لوركا. الشاعر الغرناطي القتيل: غرناطة التي قُتِلتَ فيها برصاصةٍ وحيدة في الرأس وأنتَ واقف قرب الجدار، هي المدينة التي طُرد منها أجدادنا الذين تغنَّيتَ بهم في شعرك، وها هي غرناطة تعاود الظهور في غزّة، إنهما معاً تبدأان بالحرف نفسه. أنتَ تغنَّيت بغرناطة ونحن نبكي على غزّة.
■ كلمة تقولها للناس في غزّة؟
- أشعرُ بأنّني أقلُّ من إنسان وأصغر من رجلٍ أمام الأطفال الذين يكبرون رغم أنفهم ويصبحون أبطالاً. إنَّ شهادتكم تصنعُ الحياةَ ودماءكم تسقي الحقول. لقد علّمتم العالَم درساً حول علاقة الإنسان بالأرض. جميع الناس يطؤون الأرض، أمّا أنتم فتحملونها على ظهوركم.
■ كلمة تقولها للإنسان العربي في كلّ مكان؟
- ارفع رأسك، هذا أوان رفع الرؤوس.
■ حين سُئلت الطفلة الجريحة دارين البيّاع التي فقدت معظم أفراد عائلتها في العدوان، ماذا تريدين من العالم، أجابت "رسالتي للناس إذا بيحبوا دارين يكتبوا لي رسالة أو أي إشي".. ماذا تقول لدارين ولأطفال فلسطين؟
- تمنّيت لو أضع رأسي في أحضانكم وأبكي، لدي طفلتان وأعرف معنى أن يكون الإنسان أباً. وأنا كبرت دون أم، وأشعر بيتمكم.
بطاقة
شاعر وروائي وأكاديمي ومحلّل سياسي مغربي من مواليد إقليم القنيطرة عام 1967. حاصل على ماجستير في تخصّص الصحافة، ودكتوراه في تخصّص علم مقارنة الأديان. عمل في الصحافة المغربيّة والعربيّة لأكثر من عشرين سنة. من إصداراته: "الاستراتيجيّة الأمريكيّة الإسرائيليّة في العالم العربي" (2003)، "الإسلاميون بين الدين والسلطة: مكر التاريخ وتيه السياسة" (2013)، "صحافة الزمن الغابر في المغرب" (2014)، "شيوعيون في ثوبٍ إسلاميّ: مطارحات في الإسلام السياسي والسلفيّة" (2014)، "وكانوا شِيَعاً: دراسات في التنظيمات الجهاديّة المعاصرة" (2015)، "زمن الخوف" رواية (2015)، "الرجل الذي يتفقّد الغيم" رواية (2016)، "سلفي فرنسي في المغرب" (2016)، "الكافرون" رواية (2018)، "الأسس الدينيّة والفكريّة لحريّة المعتقد في الفكر الغربي الحديث" (2020)، "عائد إلى أورشليم" رواية (2022)، "الإصلاح الديني وتغريب الإسلام" (2023).