لا نكاد نسمع بجهود الدولة في العناية بالتراث إلا مع الزيارات الوزارية، ولا نسمع بانطلاق مشروع ترميم إلا من تصريح هذا الوزير أو تلك الوزيرة. وكأن مثل هذا القرار لا يمكن إطلاقه إلا من مكتبٍ في "شارع 2 مارس 1934" (حيث مقر وزارة الثقافة).
في السابع من الشهر الجاري، أعلنت حياة قطاط القرمازي، وزيرة الثقافة الحالية، عن انطلاق أشغال ترميم مجموعة من المعالم التراثية أبرزها جامع عقبة بن نافع و"فسقية الأغالبة" و"زاوية الوحيشية" و"زاوية العوانية" لدى زيارتها لمدينة القيروان، وقد أشارت الصفحة الرسمية للوزارة عبر منصة فيسبوك إلى مطالبة الوزيرة بـ"الانطلاق فوراً في الأشغال الاستعجالية لترميم التشققات العميقة التي يشهدها الجامع الكبير بالقيروان وفسقية الأغالبة".
كيف تتوافق هذه الاستعجالية مع انتظار زيارة رسمية كي يجري البدء في ترميم هذه المعالم، والأمر لا يتعلّق فقط بقيمتها الأثرية والجمالية بل أيضاً بالخطورة التي تمثّلها بالنسبة لرواد هذه المعالم من مُصلّين وزوّار ومتساكنين حذوها.
من غير المقبول ألا تتحرّك مشاريع الترميم من دون زيارة وزارية
هناك تبريرات كثيرة جاهزة لتأخّر عمليات الترميم كالتمويل والإشكاليات التقنية واللوجستية التي كانت محور نقاشات الوزيرة مع المشرفين على هذه المعالم. يشير بيان الوزارة إلى أن قطاط "دعت إلى ضرورة تكاتف كل المجهودات الوطنية من إدارات مركزية وهياكل عمومية محلية وجهوية ومكونات المجتمع المدني وممثلي القطاع الخاص وأهالي ولاية القيروان لإنقاذ الموروث الحضاري بالجهة التي تحتوي على مجموعة فريدة من المعالم الأثرية والمواقع التراثية وتعتبر مركز ثقل ثقافي متميز يشع على كل المناطق المجاورة له"؛ لكن كيف يتحقّق مثل هذا التكاتف إذا كانت كل خطوة تحتاج إلى قرار يأتي من تونس العاصمة، إن لم يحتج إلى زيارة ميدانية كما في مثل هذه الحالة.
يُذكر أن مشروع ترميم جامع عقبة بن نافع قد حصل على دعم أجنبي تماماً كمشروع "زاوية الوحيشية" و"زاوية العوانية"، وهنا نقف على بُعد آخر من المسألة وهو عدم تحرّك مشاريع الترميم من دون هِبات من الخارج، وهو ما نجده في خصوص معالم كثيرة في تونس مثل المدرّج الروماني في مدينة الجم وجامع الزيتونة في تونس العاصمة، وهي - كما جامع القيروان - معالم حيوية (على المستوى الرمزي أو المادي-السياحي) ويجدر أن يأتي ترميمها انطلاقاً من وازع وطنيّ وليس ضمن أجندة التمويل الخارجي.
يعدّ "جامع عقبة بن نافع" أحد أقدم الآثار الإسلامية في شمال أفريقيا وهو يحمل اسم مؤسّس المدينة، ويعود بناؤه إلى القرن الثالث هجري/ التاسع ميلادي. أما "فسقية الأغالبة" فيعود إنشاؤها إلى أواسط القرن التاسع ميلادي وهي أحواض لتجميع المياه ومدّ المدينة بها تبلغ مساحتها الإجمالية 11 ألف متر مربع وهي تعبّر عن رؤية إستراتيجية في إدارة الشأن العام. رؤية من الواضح أنها افتُقدت اليوم.