الشائع في أدبيات التاريخ أن الإنسان يناضل من أجل قضيّة كُبرى، ويضحّي من أجلها. وهكذا، من باب التضحية، تعرّفنا إلى الكثير من الرجال العظام: أرسطو وجيراردو برونو وتوماس مور، وغيرهم كُثر. فالتاريخ يغصّ بقادة عسكريين، وقساوسة ورهبان، وعلماء ومفكّرين، ورجال ونساء فلاسفة، من الأنواع التي توصف بالمثالية، دفعوا موتَهم ثمناً من أجل ما يؤمنون به.
هل كانت في تلك الأزمنة قضايا عُليا، نفتقد إليها حاليّاً؟ لا يعدم زماننا الكثير جدّاً من القضايا الخطيرة التي تمسّنا، وتفتقد ليس إلى ناسٍ يضحّون من أجلها، وإنّما إلى مَن يدافعون عنها. فمواكب الانتحاريّين لا تكفّ عن الظهور، من أجل قضايا مشكوك بها أو لا تستحقّ النظر إليها، لانطوائها على خديعة، لا يفتقر إليها عصرُنا، بل يعجّ بها.
لن نناقش هذه القضايا، فالسرّ لا يكمن فيها، بل في ما يحجبها من طغيان الفضائح السياسية والجنسية؛ فأبطالها يجتذبون اهتمام الناس، ويكسبون الإعجاب من سمعتهم السيّئة، التي تتولّى تقييمها وإشاعتها الصحافةُ الصفراء، ومِن خلْفها سياسيون طموحون جدّاً، يسعون إلى القضاء بعضهم على بعض، لا تعنيهم المبادئ، ولا يؤخذون بالمثاليّات: إنّها آخر ما يفكّرون به. هذا هو النضال؛ إنه التشنيع.
إنه نضال عنيف، لِئَلّا نقلّل من أهمّيته، ولو كان من جرّاء قضايا مختلقة، أو قضايا ليست بقضايا، تافهة في جوهرها، وإنْ بدت لافتة، تتمظهر بشنّ حملات لتشويه التاريخ أصبحتْ عملةً رائجة، وإن كانت من دون معرفة، وبلا اطّلاع عميق، يكفي الأخْذ بما يُشكَّك فيه. ولن نعدم في كتب التاريخ من نظراتٍ مخالفة، بل وحاقدة، وهو ما أصبح مهنة يعتاش منها البعض، هؤلاء الذين لا يفعلون أكثر من اختلاس "التنوير"، مع أن هناك جرائمَ حقيقية تُرتكب أمام الأنظار ولا يجري الاعتراض عليها ولا الإشارة إليها، وكأنّ الهدفَ العبثُ بما استقرّت عليه الأذهان، وإغفال ما يُستباح من حرّية التفكير، وهو ما يجري في بلدان الدكتاتوريات.
ماذا عن الطاغية المحلّي الذي لا يكفّ عن اقتراف الجرائم؟
حملات ليست سوى نوع من التشويش، يُقصد منها تحطيم قضايا تاريخية بدعوى أنّ لا حصانة للماضي، فالتحطيم لمجرّد التحطيم، لإبراز القدرة على محو التاريخ، أي أن التاريخ لا يهبُنا رموزاً مضيئة، حتى لو كانت جليلة؛ بالتالي، ما أسهل القضاء عليها، ما دام الذين سيدافعون عنها محرومون من الظهور، أو أن ظهورهم غير مطلوب. فالشاشات لِمَن يجتذب الأنظار، إنها محجوزة لِمَن يرفعون أرقام المشاهدات، بإثارة معارك الغبار والضجيج، ويقلبون ما في أذهاننا رأساً على عقب، بادّعاء أنهم يحرّضوننا على التفكير.
إذا كانوا في الغرب يُعيدون النظر برجالات التاريخ، فلأنّ حقائقَ جديدةً تظهر، أو لأن التاريخ لديهم مستقرّ إلى حدٍّ يستحيل زحزحته والتلاعب به. ولا بأس، بالنسبة إليهم، إذا لم يعد أرسطو وغيرُه من الذين تعرّضوا للموت شنقاً أو حرقاً، سوى وثنيّين ومَلاحِدة وسَحَرة. إنها وجهة نظر لا توثّر في بنيان التاريخ المرصوص.
المشكلة في هذه المعارك الدائرة في الفضاء الإعلامي ــ في حال كانت فكرية ــ أنها لا تختصّ بهذا العصر، بل ترتدّ إلى العصور السابقة، بدعوى إعادة النظر في التاريخ، لتنزع عنه قداسة مفترضة، وبطولات مزعومة، وإحالتها إلى جرائم وطغيان. ماذا عن الطاغية المحلّي المعاصر الذي لا يكفّ عن اقتراف الجرائم؟
ُجرأة التنويريين الجدد تشمل أنبياء وقادةً وفقهاء وأولياء وشهداء وشعراء، مع أن قادَة هذه الحملات ليسوا مفكّرين ولا مؤرّخين، إنما إعلاميّون يجمعون من رياض الفكر والدين والتاريخ والفلسفة أشواكاً تَخَصّصوا في انتقائها. إنهم يتكلّمون كأنهم يعرفون كلّ شيء، وبما يزيد عنه، مع أنهم يعملون بهَدْي سياسات واقعيّة جدّاً تتلاءم مع عصرٍ جديد قادم، تهدف إلى غسيل الأدمغة، وبناء أدمغةٍ أُخرى من الصفر، تساعد على تكريس الاستبداد بصيغته المعاصرة: الدكتاتورية.
المهمّة لا تقبل التأجيل: تأهيل الناس على استقبال عصر لا يُلاقي صُدوداً منهم، يسبقه ما يبتدعونه من معارك الأفكار التي تُحسم من طرف واحد، قبل وقوعها. فالمعركة بين الشيوعية والرأسمالية كانت معركة إيديولوجيات دارت على ساحات ذات أرضية فكريّة، ربحها الغرب، ما مهّد لانتصاراته السياسية والاقتصادية، ولم يكن الانتصار في الجولة الأخيرة العسكرية إلّا تحصيل حاصل، أدّى إلى هزيمة الشيوعية، لمجرّد أنها لم تستطع منافسة الرأسمالية على تطوير ترسانتها العسكرية؛ لكنْ، كان المجال مهيّئاً مِن قَبل.
صحيح أن المعارك الفكرية ضرورةٌ، ولها الأولويّة، لكنّ السؤال يبقى عن الانحياز إلى أيّة أفكار، وضدّ أية أفكار. اختصاراً للجواب، نقول إن لم تُربَح إنسانياً وأخلاقياً وفكرياً، فليست إلّا انتصاراً للسُلطات المهيمِنة.
* روائي من سورية