"الكلام أو الموت" عنوان أشهر مؤلفات المحلّل النفسي المصري الذي غادر عالمنا يوم الأحد الماضي، مصطفى صفوان (1921 - 2020). عنوان يوجز فكرة العمل الذي صدر في عام 1996، ويختزل جوهر المدرسة اللاكانية التي ينتمي إليها المؤلف وهي التي وضعت اللغة وأنظمة التواصل بشكل عام في موقع أساسي ضمن فضاء التحليل النفسي، وفي هذا الكتاب قطع صفوان خطوة أخرى حين أذاب مفاهيم مثل المعنى والحقيقة ضمن معجم التحليل النفسي.
وإلى ذلك، كان العنوان يوضّح -في حدّ ذاته- موقفاً شاملاً من الوجود، موقف مصطفى صفون بلا شك، ولكنه موقف كل امرئ ذي ضمير، فالكلام هو رمز التعبير ومن دونه تقبع الكينونة البشرية في زاوية بعيداً عن الفعل والتأثير فتذوي تدريجياً في الموت الرمزي، كما أن الكلام يحيل إلى التواصل والاعتراف بين الذوات وكل تعطيل لكلام الآخر إنما هو إنكار لإنسانيته تمهيداً لإقصائه أو إبادته.
عَرف الكتاب - بفضل جاذبية عنوانه وقوة مقولاته - مقروئية عالية في ثقافات عدة، أوّلها الفرنسية التي كُتب بلغتها ويعدّ اليوم أحد أهمّ مراجع علم النفس فيها. وفي أميركا الجنوبية تحوّل إلى مفتاح جديد من مفاتيح التخلّص من الآثار الجانبية للدكتاتوريات العسكرية المتداعية نهاية القرن العشرين. وكانت له أصداء موسّعة ضمن الثقافات الألمانية واليابانية والأنغلوسكسونية وأخذ هناك سريعاً موقعاً رئيسياً لدى الباحثين في مجالات عدة أرحب من التخصّص الأصلي في علم النفس فاستلمه السيميولوجيون وعلماء الاجتماع والباحثون في الدراسات الثقافية والأنثروبولوجيون واستندوا إلى كثير من مقولاته وأطروحاته.
أتت ترجماته بناء على استشعار ما تحتاجه الثقافة العربية
أما عربياً، فقد وصل الكتاب إلى لغة صفوان الأم عام 2008، بترجمة مصطفى حجازي الذي أشار في تقديمه للعمل إلى أن عبارة "الكلام أو الموت" هي التي ألهمته مفاهيم مثل الهدر الفكري والهدر الكياني، وهي المفاهيم التي أقام عليها كتابه الشهير "الإنسان المهدور". كما أشار المترجم اللبناني إلى حاجة الثقافة العربية بالذات لينطق هذا الكتاب بلسانها وهي التي تعاني أكثر من غيرها في مفتتح القرن الحالي من قمع التعبير والتضييق على الحريات الفكرية.
كان ذلك عشيّة التحوّلات التي ستعرفها البلاد العربية في 2011، وقد كانت الانتفاضات الشعبية - من تونس إلى سورية مروراً بمصر وليبيا واليمن - تُضمر ضمن شعاراتها مقولة "الكلام أو الموت". كانت تلك اللحظة أشبه بصراع حقيقي بين الرغبة في "الكلام" والرغبة في فرض "الموت"، بين إرادة شعبية انفلت عقالها صائحاً بمطالب الحرية والكرامة والعدالة، وبين قبضة الأنظمة وهي تستعمل أدوات العنف بلا رحمة لتمنع من يريدون "الكلام" من حقوقهم وتدفع بهم إلى "الموت".
يمكن أن نربط كتاب "الكلام أو الموت" مع عمل آخر لصفوان، وهو ترجمته لكتاب "مقالة في العبودية المختارة" لـ إيتيان دي لاويسيه (القرن السادس عشر). خيار لا يبدو اعتباطياً بحال، فالكتاب خارج التخصّص العلمي لصفوان، وبالتالي فهو نوع من الانتقاء الذي يعبّر عن شخصيته ويعبّر عما يرى بأنه ينقص المكتبة العربية. اختار أن ينقل عملاً تأسيسياً للوعي بالحريات في الثقافة الفرنسية، كيف لا وكتاب لاويسيه يقوم على إضاءة الخطر الذي يتهدّد الإنسان حين يرضى بالعبودية طواعية حتى لو كانت محفوفة بشتى أنواع الملذّات والمنافع.
لاكان الذي نقرؤه اليوم هو لاكان برؤية مصطفى صفوان
كما نقل المحلل النفسي المصري إلى العربية كتاب "تفسير الأحلام" لسيغموند فرويد، لكنه لم يتصدّ له كخيار حر كما مع "مقالة في العبودية المختارة"، بل كان خيار الضرورة لسببين على الأقل؛ تقف وراء السبب الأول قصة طريفة، حيث إن صفوان وهو في بداية حياته المهنية في فرنسا، عاد في صيف 1953 إلى مصر خلال العطلة الصيفية غير أنه وجد نفسه - بقرار سياسي من نظام الضبّاط الأحرار - مكرهاً على البقاء في مصر خمس سنوات على الأقل مدرّساً في الجامعة المصرية، وهي فترة جعلته يحتك بحاجيات الثقافة العربية فيُفيدها بشكل مباشر مما تعلّمه في سنوات تحصيله في السوربون.
أما السبب الثاني، فهو استشعار صفوان الحاجة الملحة للثقافة العربية إلى سدّ فجوة معرفية تتسع بشكل متسارع في مجال علم النفس، مع ظهور طلب على هذا المجال المعرفي بعد لمحات أولى سَحر بها سلامة موسى القرّاء العرب دون أن يشفي غليلهم نظراً لافتقاده للمؤهلات العلمية الكافية التي باتت متوفّرة لصفوان الذي درس التخصّص في باريس منذ 1946. في هذا العمل اجتهد صفوان أيما اجتهاد لنقل المفاهيم التأسيسية للتحليل النفسي إلى العربية التي كان لا يجد ضمنها مقابلات لمفردات المفكّر النمساوي، ولكنه أتاح لها لاحقاً نواة مادة معجمية تلقفها مترجمون آخرون في عقود لاحقة.
حين عاد إلى فرنسا في 1958، انغمس صفوان في متابعة محاضرات أستاذه الذي تعرّف عليه منذ سنوات، جاك لاكان (1901 - 1981). لم يكن يعلم - وهو الأجنبي - أنه سيصبح بعد بضعة أعوام أهم تلاميذ المحلل النفسي الفرنسي وصديقه، ثم رأس التيار الذي يحمل اسمه بعد رحيله (اللاكانية)، وسيتحمّل صفوان في هذا الإطار مسؤولية جسيمة في تحويل محاضرات أستاذه إلى سلسلة كتب سماها "لاكانيانا"، ونفهم ثقل المسؤولية حين نعلم أن لاكان لم يعتن طوال حياته البحثية الطويلة بتأليف كتب، وبالتالي فإن لاكان كما نقرؤه اليوم هو بشكل من الأشكال لاكان برؤية صفوان كما نعرف سقراط عبر رؤية أفلاطون.
كان لهذا الدور، وللعلاقة الوطيدة مع لاكان - وهو علامة مركزية في منظومة العلوم الإنسانية - أثر أساسي في اعتراف الجماعة العلمية الفرنسية بصفوان كما يحدث ذلك نادراً مع باحث أجنبي. لاحقاً يُعتبر صفوان فرنسياً من أصول مصرية. لكن لا يمكن أن نُرجع هذا الاعتراف الفرنسي إلى هذه العلاقة مع لاكان وحدها، فقد كان لصفوان مؤهلات أخرى تدعم شرعية موقعه، من ذلك أنه حين جرى إطلاق مشروع سلسلة الكتب المعروفة "ماهي البنيوية" عُهد إلى صفوان بوضع كتاب "البنيوية في التحليل النفسي" دون غيره من الباحثين في هذا المجال ومنهم لاكان نفسه.
ثم إننا لو تساءلنا: ما هو الكتاب الذي يعتبر اليوم المدخل الرئيسي لعامة القرّاء إلى التحليل النفسي في فرنسا فسنجد أنه عمل آخر لصفوان صدر في 2013 وبدا مثل خلاصة تجربة فكرية كاملة. لقد أتى هذا العمل ليربط بشكل نهائي بين كواليس الحقل العلمي والقارئ العادي، وهو ما يفسّر تعدّد طبعاته، ومنها طبعة شعبية بحجم الجيب. عملٌ وصل إلى العربية في 2016 (نقله أيضاً مصطفى حجازي)، وهو مؤشّر يبدو إيجابياً في سرعة نقل أعمال مصطفى صفوان إلى العربية، ولكن هل يخفي ذلك غيابه الطويل، وقراره أن يفيد الثقافة العربية من مقرّه الباريسي وليس من الإسكندرية، مسقط رأسه، مثلاً. لعلّه كان يودّ ذلك، ولكن هل كان سيجد بيئة حاضنة مهيّأة للعلم والتأليف؟ لعلّه حين كان يحدّد مدينة استقراره كان يختار بين "التحليل النفسي" أو "الموت".