حين رحلت الكاتبة المصرية نوال السعداوي (1931 - 2021) في مارس/ آذار الماضي، كانت الاستعادات الرصينة لمنجزها قليلة للغاية. صحيح أنّها باتت تُنسب بشكل بديهي (ربما روتيني) إلى الحركة النسوية لكنّ من النادر أن يُستعاد الجانب الفكري منها إذ لم تكن تُقدَّم (وكذلك تقدّم نفسها) إلى الجمهور الواسع إلاّ عبر سجالاتها، وهل للسجالات أن تكون مدخلاً فكرياً جيداً لوصول أطروحات الفكر النسوي إلى أوسع مدى؟
لقد كان رحيل صاحبة "الوجه العاري للمرأة العربية" مناسبة كي نقف على ما يحدث مع الفكر النسوي إذا ما اقتحم تلك الحدود المرسومة من السُّلَط الدينية والسياسية والاجتماعية. انشغلت مواقع التواصل الاجتماعي لأيام بسجالات معظمها تقييمات - معادية أو ممجّدة - لا تعود إلى النصوص ولا تُسند أي رأي ببرهان، ناهيك عن موجة التكفير والتكهّن بمصيرها يوم الحِساب.
حين نرى ذلك العنف نفهم بعض الراديكالية التي اتسمت بها أعمال نوال السعداوي، وقد ننسى أحياناً أنّ الأمر لا يعدو أن يكون راديكالية مضادة للراديكالية المحافظة، وما الثقافة العربية من هذه الزاوية إلاّ دائرة مغلقة من الفعل وردّ الفعل تُهدِرُ كلَّ إمكانية للبناء.
ولنا أن ننظر في حال الكتابة النسوية العربية على مدى عقود، فهل تأصّلت مقولاتها ومفاهيمها ونظرياتها بحيث تتمظهر في الفكر والأدب والفنون ومقرّرات الدراسة وسلوكيات الحياة اليومية؟ وهل أن نجاح الفكر النسوي يقتصر على أن تكون النساء كاتبات ومفكّرات وفنانات؟ أليس أولى من ذلك أن تتغيّر قواعد اللعبة الاجتماعية والثقافية بما يخلق مناخاً يحمي المرأة من النظام البطريركي، وحتى من تعصّب الفكر المضاد له؟
في ثقافتنا العربية، نرى طريقاً مقطوعاً أمام كلّ تأصيل لفكر نسوي رصين، ولا نجد أيّ أثر للتراكم المعرفي ضمن هذا الحقل الفكري، فلا نجد اليوم من الباحثات والمؤلِّفات من يمكننا القول إنّها تواصل مشروع نوال السعداوي أو غيرها من معاصِراتها. على أقصى تقدير، ثمة من يواصلن نفس المعارك لا المشروع نفسه. ومن الوجيه أن نتبيّن أنّ نوال السعداوي ومعاصراتها لم يكنّ أيضاً مواصلات للمشاريع النسوية الأوّلى في غير بلد عربي (نبوية موسى، نازك العابد، بشيرة بن مراد...) والذي كان مندمجاً في الرؤية الوطنية الجامعة.
هكذا يُهدِرُ الضجيجُ والمعاركُ الجانبية في كلّ مرة فرصة تسلّم مشعل من جيل إلى آخر. ليس الفكر النسوي إلاّ نموذجاً لحالة عربية معمّمة، إذ يضيع معظم ما هو رصين في الجلبة والغبار وتُقطع الطريق أمامَ كلِّ مشروع. وما لم تنشغل النُخَبُ بفهم هذه الدوّامات وتبدأ في تغيير أنفسها، فإنّ مناسبات كثيرة تعرّي الوجوه الكريهة للثقافة العربية.