في السادس مِن حزيران/ يونيو 1982، وفي غمرة الاجتياح الإسرائيلي للبنان، انتحَر الشاعر اللبناني خليل حاوي بطلقة من بندقيّة صيد. طغى هذا الخبر على سيرة الشاعر، وطغى انتحارُ الشاعر على شعره، بحيث صار مفتاحاً للسيرة وللشعر. بدا تزامن الانتحار مع الاجتياح الإسرائيلي لصيقاً وحاسماً، بحيث اعتُبر جواباً عليه وجزءاً منه. علِمَ الجميع أن هذا الانتحار هو المحاولة السادسة للشاعر، أو سبقته ستّ محاولات لم تنجح. هذا العِلْم كان في مقدوره أن يوهِن الصلة المفترضة بين الاجتياح والانتحار.
معه كان يمكن لهذا التوافق أن يبدو أقرب إلى المصادفة، بيد أن نقّاد خليل حاوي أجمعوا على أنّه مقصود وواعٍ. يمكن القول إنّ هذا الانتحار، كما رُصد وفُهم، صار مدخلاً إلى قراءة شعر حاوي، بل صار مدخلاً لأسطورته الخاصة، هو الذي كان شعره، في جانب منه، محاولة لخلق أسطورة معاصرة. هذا ما جعل شعره في مجموعاته الخمس يُقرأ على أنّه موازٍ للأيديولوجيا القوميّة العربية، بل على أنّه موازٍ لجملة الأحداث العربيّة في حينه، من سقوط فلسطين إلى هزيمة 1967، إلى انهيار الوحدة المصرية السورية.
هذا ما نستشفّه، على سبيل المثال، من كتابات ريتا عوض، الباحثة الضليعة في خليل حاوي وشعره. هذا مع أنّ حاوي، في كلّ منجزه الشعريّ، لم يتعرّض مباشرةً لأيّ من الأحداث التي عصفت بالعالم العربي. لم يكن هذا أسلوبه ولا وجهته، مع أن جانباً من الشعر العربي، الذي عاصره حاوي، كان ألصق بالأحداث وأكثر تناولاً لها، الشعر الفلسطيني على سبيل المثال. إلّا أنّ حياته اندغمت هكذا في شعره، إلى حدّ أن صارا واحداً، وإلى حدٍّ سهّل قراءةً أيديولوجية وشبه مباشرة لشعرٍ انطوى على كثير من الرموز والاستعارات الأسطورية، كما أنّه كان، بحدّ ذاته، محاولةً لبناء أسطورة راهنة، لعل الأثر التوراتي والمعاصر كذلك لم يكونا بعيدين عنها.
ظلٌّ أسطوري لا نُخطئ إذا قلنا إنه ظَلم الشاعر بل غيّبه
الآن بعد مرور كل هذا الوقت على غياب خليل حاوي، ما زال انتحار الشاعر مخيّماً على حياته وعلى شعره. ليس الانتحار نفسه فقط، بل القراءة الظرفيّة له، والتي هي ليست كافية بأي وجه كان، ويمكن أن يكون ردُّه (أي الانتحار) إلى وقته الذي تزامن مع الاجتياح، بداية أسطورة استعارت نهاية الرجل وشعره، بحيث بدت جميعها تحت ظلٍّ أسطوري، لا نُخطئ إذا قلنا إنه ظَلم الشاعر بل غيّبه أحياناً، والآن نجد أنفسنا أمام بناء أيديولوجي يستعير الشاعر وشعره، ويطغى عليهما.
بدايةُ هذا قد تكون في تلك التسمية التي أُطلقت على زمرة الشعراء التي عُدّ الشاعر من بينها. التسمية هي "التموزية" التي تردّ الشعر إلى أسطورة أدونيس وعشتار، التي تنتهي بانبعاث أدونيس من الموت في الربيع، بعد أن أحيته دموع عشتار. ليس خليل حاوي وحده في هذه الزمرة، فنحن نتذكّر الآن أنّ أحد أهم أركانها، يحمل اسم تمّوز أو أدونيس. هذه التسمية ما لبثت أن امتدّت على شعر حقبة بكاملها، بل هي تكاد تشمل القصيدة الحديثة في جزئها التفعيلي على الأقل.
أمّا ما يُميّز الشعر التمّوزي فهو أيديولوجيا الانبعاث، هذه الأيديولوجيا التي نُسبت حينها إلى أنطون سعادة وحزبه السوريّ القوميّ الاجتماعيّ، لا تنحصر في هذا المؤسّس وحزبه. إذ لا ننسى أن الانبعاث أو البعث علم على الحزب المعروف الذي حكم العراق وما زال يحكم سورية. أيديولوجيا الانبعاث تكاد تكون، بعيداً عن الأحزاب التي حملتها، أيديولوجيا حقبةٍ كاملة، ويمكن لناقد مهتمّ أن يجدها في طوايا نتاج أدبي وفكري لعصر كامل. وجودها على هذا النحو قد يشير إلى أنها "الأيديولوجيا العربية المعاصرة" كما سماها عبد الله العروي في كتابه المعروف.
هذا ما يدلّنا إلى أنّها أدخلُ في التحليل الفكري منها في النقد الأدبي. لسنا نعثر في تلك الحقبة على أثر أدبي أو فكري لا نستطيع ردّه إلى هذه الأيديولوجيا أو الانبعاث. هذا يعني أنّنا لا نستطيع أن نكتفي بهذه الثيمة الأيديولوجية لقراءة خليل حاوي أو سواه من أدباء وفنّاني تلك الحقبة. يمكن القول إننا في "نهر الرماد" و"الناي والريح" بوجه خاص، أمام نصوص قد لا نخطئ إذا قلنا إنها ذات وحدة داخلية، قد تحمل أحياناً على البحث عن الموضوع الذي ينتظمها، وقد نشطح أحياناً إلى قراءتها تحت عنوان أيديولوجي.
لم يستجب شعره للشروط الأيديولوجية التي أرادها له نقّاده
لكن ما يميّز نصّاً كقصيدة "الجسر" الشهيرة في "نهر الرماد"، قد تكون بالدرجة الأولى نشائديّته التي تجعله أقرب إلى نشيد جماعي، وإلى ما يعنيه ذلك من فسحة دراميّة. يستقطب ذلك كل قصائد "نهر الرماد". هذه الفسحة الدرامية مصوغة بنوع من الغضب الجماعي، والتنديد الجماعي، اللذين يستعيران من بعيد بُنيةً توراتيّة قريبة من أشعار أشعيا وأرميا وأيوب في التوراة. إلّا أنّ ذلك ينقلنا إلى الفضاء المسرحي في شعر خليل حاوي.
إن كان لهذا الشعر صلة بالأيديولوجية القومية، فليس هذا عبر استعادة أركانها، بل في ما تُقدّمه من فضاء مسرحي مواز لها. إننا في "نهر الرماد" نجد تمثُّلاً بركانياً لما يمكن أن نسمّيه بالحسرة القومية أو الغضب التاريخي. لكنّ نصوص "نهر الرماد" يمكنها أن تكون مونولوغات وحواريات داخلية لهذا الغضب. يمكنها أن تكون، من هذه الناحية، محاولة لكتابة نوع من سيرة جماعية. أمّا في "الناي والريح"، فنقع على صوت أكثر فرديّة وأكثر تحسّراً وتفارقاً مع نفسه. ففي قصيدة "أليعازر" نفهم أنّ الانبعاث هنا عودةٌ إلى الرمز، وليس سوى المونولوغ الداخلي الذي يميّز أليعازر، الذي هو شخصية درامية بامتياز، ويصل به إلى ذروة درامية في انقلابه على نفسه وعلى حياته الثانية.
قد يكون مهمّاً هنا أن شعر خليل حاوي لم يستجب للشروط الأيديولوجية التي أرادها له نقّاده، بحيث بقيت أسطورة الشخص في نظرهم فوق أسطورة النص. لذا يحتاج خليل حاوي في عودته إلى الذاكرة، هكذا، إلى قراءات أُخرى.
* شاعر وروائي من لبنان