مريد البرغوثي.. غياب عند أقصى درجات الانتباه

16 فبراير 2021
مريد اليرغوثي في ميلانو عام 2014 (Getty)
+ الخط -

في خطى مغايرة لجميع أبناء جيله، كتَب الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي (1944 – 2021) الذي رحل أوّل أمس الأحد قصيدته، وسجّل مواقفه وعاش نائياً بنفسه عن أية جماعة أو "شّلة" في الوسط الثقافي الفلسطيني، والعربي أيضاً، حتى أن المتلقّي لكتابته، والمتتبّع لسيرته، لن يستطيع ربط معظمها بحدثٍ أو مكان أو لحظة سياسية بعينها رغم أنه لم يكتب إلا متأملاً أو متفكّراً بواقع فلسطين وأحوال الفلسطيني.

متأثّراً بهزيمة حزيران/ يونيو 1967، ذهَب إلى الشعر في محاولة لترميم الخسارات الشخصية الثقيلة، وتفرّق العائلة بين المنافي، وفقدان ما تبقّى من فلسطين، وأرسل نصوصه الأولى ضدّ الموجة السائدة آنذاك بنبرتها العالية وخطابها المباشر في التمسّك بالأرض وخيار المقاومة، حيث أراد أن يقول كلمته بهدوء ويثبّت أفكاره بلا ضجيج وافتعال.

وهكذا صدرت مجموعته الأولى "الطوفان وإعادة التكوين" عام 1972، فلم يتغنّ في قصائده بالوطن أو يمجّد عمليات المقاومة أو يرفع أية يافطة وشعار، واختار عنوانها مدفوعاً بوعي ورغبة من يريد هدْم منظومة بأكملها رفضاً للخضوع والامتهان لآلهة وأصنام وزعماء وموروثات بالية، وقد كتب فيها مقطعاً مثل: "أنا شاهدتُ مولده الأخير هنا مساء اليوم/ وما زالت عيوني السود أسئلة تحدّق في صباح الغد".

ذهَب إلى الشعر في محاولة لترميم الخسارات الشخصية الثقيلة

ومن يمتلك جرأة أن تكون بدايته على هذا من النحو الاختلاف، سيمتلك حتماً القدرة على مراجعتها بعد أكثر من أربعة عقود، ويشير في مقال له: "كنت في تهوّر العشرينيات من عمري. إنها السن المناسبة تماماً للتأكد من الحكمة! الأكيد أن في الديوان قصائد ندمتُ على نشرها لرداءتها"، ويعترف أيضاً أن مجموعاته الثلاث اللاحقة صدرت دون أن يكون مطمئناً تماماً لوضوح خطوط بصمته، وهي مجرّد "تمارين على الكتابة".

لا تنفصل تلك النظرة عن التكوين الشخصي لصاحبها الذي حُرم عام 1967 من العودة إلى قريته دير غسانة بالقرب من رام الله، عشية تخرّجه من قسم اللغة الإنكليزية بـ"جامعة القاهرة"، ولاحقاً سُجن في مصر وأبعد عنها لسبعة عشر عاماً بسبب معارضته زيارة الرئيس المصري محمد أنور السادات للكيان الصهيوني عام 1977، حيث دفع ثمن موقفه السياسي مزيداً من المنافي والاغتراب وفرّقه زمناً عن زوجته الناقدة والروائية المصرية الراحلة رضوى عاشور (1946-2014).

ويؤكد صاحب ديوان "فلسطيني في الشمس" (1974) في أكثر من مرّة أنه لا يصيبه الحنين إلى وطن فقده، إنما يتملّكه الغضب حيث العودة مستحيلة إلى فلسطين المأسورة بجيوش وحدود وقوانين، وحيث كُسرت إرداته، فالحياة بالنسبة إليه "صراع إرادات"، لكن يرى أنه "حين يكسر عدوك إرادتك في معركة هذا لا يشكّل منعطفاً تاريخياً، فالمنعطف التاريخي يبدأ حين تغيّر أنت روايتك التاريخية"، وهذا ما فعله الزعماء العرب الذين وقّعوا اتفاقيات مع المحتلّ.

نزع في قصيدته نحو دراما تركّز على صراع الإنسان وحركته

رؤية مبدئية كرّست لدى الشاعر قناعته باتخاذ مسافة نقدية بينه وبين السلطة؛ أيّة سلطة، وتفرض عليه إعادة النظر في المسلّمات التي تبدأ بالشعر نفسه، ولا تنتهي بالسياسة والاقتصاد والثقافة، مؤمناً بأن الفن هو "أقصى درجات الانتباه للعالم الداخلي للفنان وعالمه الخارجي". انتباه سيبعده عن الثرثرة في الشعر، ويمنحه نظرة حالمة في الحياة يراها أكثر واقعية من الواقع، حيث الدماء والتضحيات والألم والنفي والاحتلال خلال مئة عام من تاريخ الشعب الفلسطيني لا يساويها أي ثمن.

وعلى طريقته، سيقارب تلك الأوجاع في قصيدة مسكونة بالمفارقة، ومحمّلة بخلاصات فلسفية، وسخرية تبدو سوداء أحياناً، كما في مجموعته "منطق الكائنات" (1996) إذ يكتب تحت عنوان "قال النجار": "كرسيُّ المدرسة مصنوع من عظام الموتى/ كرسيّ المقهى وغدٌ لا يعرف صاحبه/ كرسيّ اللاجئ الريح/ كرسيّ مرافق المريض مريضٌ/ كرسيّ المحقّق المرعب مصنوعٌ من السوس/ الكرسيّ المتحرّك والشخض المشلول لا نعرف من منهما يحرّك الآخر/ كرسيّ القاضي في بعض البلدان تصنعه شركاتُ الهاتف/ كرسيّ العمدة، الهدية الوحيدة التي بوسع الغفير، ذي البندقية الطويلة، والذكاء المحدود، أن يقدّمها لسيده/ أفخم كرسيّ في الدار الغارقة، سيغرق أيضاً/ كرسيّ الغيور بثلاثة أرجل/ كرسيّ طبيب الأسنان أكثر عدلاً من غيابٍكْ".

ونزع البرغوثي منذ مجموعته الخامسة "قصائد الرصيف" (1980) نحو الصورة الشعرية التي تعتمد مشهدية درامية في تصوير الأشياء التي يشعر فيها ويتخيّلها ويحدس بها، وبرع في تركيزه على التفاصيل والدقائق الصغيرة في تلك الصور من أجل تحقيق جرعة مضافة من الصدمة والتأثير على المتلقي، كما مزَج يوميات الحياة اليومية بعاديتها وفرط بساطتها بأحلام أو تخيّلات منحها الخروج عن المألوف في معاينة حركة الكائن فيها وتحوّلاته ومآلاته، بكثافة وتقشّف متقصّدين وصفَهما ذات يوم بأنه يكتب بـ"الممحاة".

أنصت صاحب ديوان "رنة الإبرة" (1993) للصراع الدائم بين الإنسان ومكانه وبين الإنسان ودواخله، وكان تعبيره الأساسي عنه من خلال لغة الحوار، والمخاطبات التي لا يكلّ الفرد عن إنشائها كلغة تجمع البشر والحيوانات والجمادات، في محاولة للتفكير وإعادة التفكير انطلاقاً من تلك التناقضات التي توضّح سلوك كلّ واحد منها في مقابل الآخر، وهي تقنيات قام بتطويرها والتوسّع في استخدامها لطرح مواضيع عديدة قد يبدو تناولها بعيدا عن الشعر، لكنه استطاع أن يجعل شعريتها قائمة على تلك الانزياحات في الشكل والمضمون.

مواصلاً تلك الحكمة التي تدثّر بها فتى، فرافقته كهلاً، أصدر مجموعته الشعرية الأخيرة "استيقِظ كي تحلُم" عام 2018 بعد ثلاث عشرة سنة من نشره المجموعة السابقة "منتصف الليل"، وقد اختزل فيها تجربته في ثلاثة أقسام رئيسة؛ تأمّلاته في الوجود ومعنى الحرب وفكرة التاريخ، وإنطاق الموجودات من حوله ونسج حوار معها تحت "منطق الكائنات، مرة أخرى"، ويختمه بـ"وثيقة" يتحدّث فيها إلى رفيقة دربه رضوى عاشور؛ حبيبة ومبدعة ومناضلة.

يصفّي البرغوثي حسابه مع الموت في قصيدة "خلود صغير" من المجموعة الأخيرة، مستذكراً والدته وأخاه الشهيد منيف، ورضوى، وآخرين، ويسجّل: "هل أغيِّرُ للموتِ رأياً وأُقنِعُهُ أنه فاشلٌ؟/ أيقتنعُ الموتُ أنّي أسيرُ بأقدامهمْ؟/ فخُطايَ خُطاهُمْ/ وعينايَ أعينُهُمْ/ والقصيدةُ إصغاؤهم/ هل سأقنعهُ أنهم يَحدُثونَ لِيَ الآنَ/ مِثْلَ النّجاةِ ومِثْلَ العِناقْ؟/ يَحدُثونَ لِيَ الآنَ حتى نُطيقَ معاً/ عِبْءَ هذا الجَمالِ الذي لا يُطاقْ".

الشاعر الذي ظلّ حريصاً على خصوصية صوته كان من المنطقي أن يتقاطع يوماً مع جنس أدبي مثل السيرة الذاتية، فأنجز عملين سردييْن هما "رأيت رام الله" (1997)، و"وُلدت هناك، وُلدت هنا" (2009)، وفيهما يلتقط جملة مفارقات صاغت مسار حياته منذ غادر وطنه حتى عودته غير المكتملة إليه، مستعرضاً الخسارات والهزائم المتلاحقة التي تعرّض إليها الإنسان الفلسطيني بأسلوب يعرّي الحصار والاحتلال والعبث السياسي أيضاً، ويلخّصها بقوله "منذ الـ67 كلّ ما نفعله مؤقّت".

المساهمون