مذكّرات حقيبة

مذكّرات حقيبة

19 نوفمبر 2023
رجل فلسطيني يحمل حقيبته على كتفيه عقب غارة صهيونية، غزة، 10 الشهر الماضي (Getty)
+ الخط -

وُلدتُ عام 1946، في بلدة الحمامة قضاء المجدل (عسقلان)، لواء غزّة. وفي عام 1948 رحلتُ إلى منطقة بنت أبو خضرة في غزّة، وحملتُ بالقليل من المشمش والبرقوق، وببابور ولحاف وفستان فلسطيني مُطرَّز وبعض الغيارات القليلة، والأهم هو مفتاح البيت على أساس أننا سنعود بعد عدّة أيام. سمعتُ أصحابي يتبادلون الحديث، بين مَن يرغب بتحميل الكثير من الملابس والأغراض، ومن يرغب بحمل الثمين من الممتلكات فقط. وفي لحظة اشتدّ الصراع، وقرّر صاحب البيت أننا سنكتفي بالقليل. كان أصحابي يحملونني من مكان إلى آخر حرصاً على المفتاح، خشية من عدم قدرتهم على فتح باب بيتهم في أيّ لحظة.

مرّت سنوات وسنوات وكبُرَ الصغار، وبقيت مكاني بعد أن تنقّلت من خيمة صغيرة إلى غرفة في مدرسة، ومن ثم إلى شقّة صغيرة، وبعدها إلى منزل متواضع في غزّة. مرّت الأيام والليالي وتوالت الأحداث وما زال الأمل موجوداً، ولكنّه يبعد يوماً بعد يوم، حتى ألفنا بيتنا الجديد وطلبنا العوض من الله، فحالنا أحسن من حال الكثيرين الذين هُجِّروا إلى خارج فلسطين، فنحن ما نزال على ترابها ونعشق أرضها، ونشمّ رائحة بحرها، ونصلّي تحت سمائها. 

في لحظة النزوح تساءلتُ عن سبب الخروج ولم يُجبني أحد

لم يبق داخلي سوى المفتاح والثوب المُطرّز، أمّا البابور فقد تمت الاستعاضة عنه بعين غاز جديدة. رماني أصحابي فوق الخزانة وبقيتُ هناك حالمة، ممتنّة، حريصة على الأمانة التي لدي، فالمفتاح والثوب بداخلي ويتمّ فتحي بين سنة وأُخرى، للتهوية وفي حملات التعزيل الموسمية فقط. 

هل تعرّفتم عليّ؟ أنا اسمي حقيبة، أنا حقيبة النزوح، أنا حقيبة اللجوء، مع أنّي أرغب بأن أكون حقيبة العودة، ولكنّي أعلم أن المطالب لا تُنال بالتمنّي.

في لحظة النزوح تساءلتُ عن سبب الخروج ولم يُجبني أحد، ولكنّ المذابح التي ارتكبَتْها العصابات الصهيونية كانت بالتأكيد وراء هجرة حوالى ثمانمئة ألف فلسطيني من بيوتهم، وكلّ منهم يحمل حقيبة تشبهني، وجميعهم كان على ثقة بالعودة. لم نستطع أنا وأخواتي الحقائب أن نحمل الكثير من أغراضهم، فاكتفينا بالقليل القليل، لأن العودة كانت حتميّة والمفتاح كان معنا بعد أن أُحكِم غلْقُ البيوت.

سمعت يوماً أنّه قد تم الاستيلاء على البيوت، وإسكان المهاجرين القادمين من أوروبا وأميركا بها، وقلقت كثيراً على المفتاح والثوب وبالذات في لحظات استخراجهما من قبل الجدّة، التي كانت تقابل الصحافيين للحديث عن قصة ترحيلها وتستشهد بالمفتاح وتتألّق بالثوب، مع أنها تنسى أن تُشهدني على حكاية النزوح والألم والترحيل والأمل. الجميع فقد الأمل بالعودة إلّا أنا بقيت أحتضن المفتاح وأنتظر العودة.

تعبتُ من كثرة الانتظار وفُجِعتُ من قساوة الزمان، وكمّ الغبار الذي تراكم فوق أجزائي، وتحلّلت أقسامي، ولكنّي بقيت صامدة بانتظار العودة، شاركني بالحلم جدّتُنا فقط، التي لا تزال تختال بالفستان كأنها عروس تنظر بالمرآة، وتقول: "سقى الله على أيام العز، بس الفستان كلّ يوم بازداد عز..."، وتغنّي وتقول: "سنعود، سنعود".

بعد مرور خمسة وسبعين عاماً على ترحيلي أوّل مرّة أصبحتُ غير قادرة على الصمود، وأصبح الأمل كضوء خفيف ينبثق في حلكة ليل. يئستُ كثيراً، وتألّمتُ كثيراً، ولكن أجدّد الأمل مع شروق شمس كلّ يوم.

صحوتُ صباح العاشر من كانون الأول/ ديسمبر 2023، لأجد الجميع يبحث عني. خفتُ كثيراً وارتجفتُ. إلى أين الآن؟ فقد أخذتني سنوات وسنوات لآلف المكان ومحاولة النسيان والاعتياد على الحرمان. فجأةً سحبوني من مكاني وبدأت العائلة تتساءل عن صلاحيتي لنزوح جديد، فهُمُ الآن يعلمون أنَّ العودة ليست بالحُسبان، وأنّ عليهم أخذ كلّ ما بالإمكان دون غفوة عن الأحلام والآمال... 

سقطتُ أرضاً وأيقنتُ أنَّ هذه المرّة مختلفة، فهل يا تُرى سأقدر على حمل الأغراض أم الذكريات أم الأحلام؟ وهل سأُجَرُّ لساعات وساعات في زمن ضاع فيه معنى الزمان والمكان؟ بكيتُ بصوت عالٍ، وصرختُ: "اتركوني لا أريد أن أغادر، أريد أن أُقصَف وأصبح في عالم النسيان، أرجوكم لا تأخذوني معكم، فلا أريد تذكُّر مشاعر الاغتراب مرّات ومرّات، فما يزال أثرها على ملامحي، وما تزال عجلاتي متفكّكة تبحث عن الثبات في الأرض". 

أدركَ أصحابي أنّني لا أكفي لذكريات خمسة وسبعين عاماً، وأن عليهم الاستعانة بحقائب أُخرى؛ واحدة للاحتياجات الرئيسة للأحفاد، وواحدة لأدوية الجدّ والجدّة وملابس شتوية للبرد القادم، وأُخرى لحليب الأطفال وغياراتهم وألعابهم. تصايح الجميع: "لا تنسوا الأوراق الثبوتية وجوازات السفر، فلا نعلم إلى أين المفرّ هذه المرّة، وماذا ينتظرنا غداً...". صاح أحدهم: "ماذا عن شهادات الميلاد والشهادات الجامعية؟"، وصاح آخر: "أريد كتُبي المدرسية وملابسي"، وصاحت أُخرى: "أُريد كمبيوتري وجوّالي وشاحني وسماعاتي". واعتلّت الأصواتُ بصمت رهيب لم يسمعه أحد غيري فقد اعتدتُ المشهد، ورأيتُ تعابير الحزن والصمود على الوجوه، وخشيتُ عليهم من فُقدان الأمل، وخذلان الأشقّاء.

المفاجأة أنني وجدتُ نفسي وحيدة بعد الوصول، فقد تم قصفنا في طريق النزوح الأخيرة، ومات جميع أصحابي وبقيتُ وحيدة ممزّقةً إلى أشلاء... ارحموا حقيبةً لم تعد قادرة على النزوح...

آخرُ ما سمعتُه كان صوتاً من بعيد يقول: "سنعود مرّة أُخرى لنرقص على شاطئ غزّة، فالقضيّة لا تموت!". 



بطاقة

باحثة وكاتبة وناشطة فلسطينية في مجالات التكنولوجيا، وتمكين المرأة، وفلسفة التعليم، والتعليم في الأزمات. تعملُ عميدة لكليّة التربية في "جامعة النجاح الوطنية" في نابلس. من مؤلّفاتها: "التعليم تحت الاحتلال"، و"مذكّرات أمّ سيّئة" (2020). لها مُساهمات في مجلّات علميّة محكّمة حول التعلُّم والتعليم. أسّست مبادرة "الأمن والأمان على الإنترنت في الوطن العربيّ"، ومبادرة "إصلاح التعليم في فلسطين".
 

نصوص
التحديثات الحية

المساهمون