تنشر "العربي الجديد"، على حلقات أسبوعية، ترجمة الشاعر والروائي والناقد الفلسطيني محمد الأسعد كتاب "مدن غير مرئية" لإيتالو كالفينو. يعدّ العمل من آخر ما ترجمه الأسعد قبل رحيله المفاجئ في أيلول/سبتمبر من العام الماضي.
يمتلك الخان الأكبر أطلساً تُصوّر رسومُه الكوكبَ الأرضيّ كلّه دفعةً واحدة وقارّةً بعد قارّة؛ الحدود بين أكثر العوالم نأياً، مسارات السفن، السواحل، خرائط العواصم الأكثر شهرة والموانئ الأكثر غنى. إنه يتصفّح الخرائط أمام عينَيْ ماركو بولو ليمتحن معرفته. يتعرّف الرحّالة على القسطنطينية في المدينة التي تُهيمن من ثلاثة شواطئ على مضيقٍ طويل، على خليج ضيّق، وبحر مغلق؛ إنه يتذكّر أن أورشليم قائمةٌ على تلَّيْن، متفاوتَي الارتفاع، يواجه أحدهما الآخر؛ لا يتردّد في الإشارة إلى سمرقند وحدائقها.
بالنسبة إلى المدن الأخرى، هو يرجع إلى أوصاف متناقلة شفاهاً، أو يخمّن معتمداً على دلائل ضئيلة: هكذا فإنّ غرناطة، لؤلؤة الخلفاء المقلّمة؛ لوبيك، الميناء الشمالي المنظم؛ تمبكتو، سوداء بالأبنوس بيضاء بالعاج؛ باريس، حيث يعود ملايين الرجال إلى بيوتهم يوميّاً وكلّ واحد منهم يقبض على عصا من الخبز. الأطلس يصوّر بمنمنمات ملوّنة أماكنَ مسكونة ذات أشكالٍ غير معتادة: واحة مختبئة في طيّة من طيّات الصحراء لا تبرز منها إلّا ذؤابات نخيل هي بالتأكيد نيفتا؛ قلعةٌ وسط رمال متحرّكة وأبقارٌ ترعى في مروج ملّحتها مياه المدّ لا يمكن إلّا أن تُشير إلى جبل سان ميشيل؛ وقصرٌ، بدل أن يرتفع من قلب أسوار مدينة، يحتوي داخل أسواره مدينة لا يمكن أن تكون إلّا أوربينو.
الأطلس يصوّر مدناً لا ماركو يعرف ولا الجغرافيون أنها موجودة أو أين هي، رغم أنها لا يمكن أن تُفتقد وسط أشكال المدن الممكنة: كوزكو، على مخطّطٍ شعاعي متعدّد الأجزاء يعكس نظام تجارتها المكتمل؛ مكسيكو خضراء على بحيرة يشرف عليها قصر مونتيزوما؛ نوفغورد ذات قباب بصلية الأشكال؛ لاسا التي ترتفع سقوفها البيضاء فوق سطح العالم الغائم. على هذه أيضاً يُطلق ماركو أسماء ــ لا يهمّ أيّ اسم ــ ويقترح مساراً للوصول إليها. من المعروف أن أسماء الأمكنة تتغيّر مرّاتٍ عديدةً بعدد ما هنالك من لغات أجنبية؛ وأن كلّ مكان يمكن الوصول إليه من أماكن أخرى، بوساطة أكثر الطرق والمسارات تنوّعاً، بوساطة أولئك الذي يركبون، أو يقودون، أو يجذّفون، أو يطيرون.
أطلس الخان يكشف عن أشكال مدن لم تتّخذ شكلاً أو لقباً بعد
يقول الإمبراطور لماركو وهو يغلق المجلّد فجأةً: "أعتقد أنك تميّز مدناً على الأطلس أفضل ممّا تميّزها حين تزورها شخصياً".
ويجيب بولو: "في الترحال تُدرِك أن الفروق تضيع؛ كلّ مدينة تأخذ بالتماثُل مع كلّ المدن، تتبادل الأمكنةُ أشكالَها، نُظمَها، مسافاتها، غيمةُ غبار لا شكل لها تغزو القارات. أطلسُك يصون الفروقات سليمةً؛ ذلك تصنيف لخصائص هي مثل الحروف في اسم".
■ ■ ■
يمتلك الخان الأكبر أطلساً من النوع الذي جُمعت فيه خرائط كلّ المدن: تلك التي ترتكز جدرانها على أساسات صلبة، تلك التي تحوّلت إلى خرائب وابتلعتها الرمال، تلك التي ستظهر إلى حيز الوجود ذات يوم والتي ليس في مكانها الآن سوى فتحات جحور أرانب برية.
يتصفّح ماركو الصفحات، يميّز جيريكو، أور، قرطاج، يشير إلى الهبوط عند مصب السكامندر، حيث انتظرت سفن الآخيين طيلة عشر سنوات، لتُعيد المحاصرين على متنها، إلى أن سحبت الرافعاتُ الحصان، بعد أن جمع يوليسيس أجزاءَه ومَسْمَرَها، عبر بوّابات سكايين. ولكنْ والحديث عن طروادة، وجد نفسه يمنح المدينة شكل القسطنطينية، ويتنبّأ بالحصار الذي سيضربه عليها محمّد [الفاتح] طيلة شهور إلى أن جعل سُفُنَه تُسحب ليلاً ــ هو الماكر مثل يوليسيس ــ في الجداول من البوسفور إلى القرن الذهبي، متجنّباً بيرا وغالاطا. ومن مزيج هاتين المدينتين برزت ثالثة، تلك التي قد تُسمّى سان فرانسيسكو، والتي تجسر المسافة بين البوّابة الذهبية والخليج بجسور طويلة، خفيفة، وترسل عربات ترام مفتوحة تتسلّق شوارعها شديدة الانحدار، والتي قد تزدهر كعاصمة للمحيط الهادئ بعد ألف عام من الآن، بعد الحصار الطويل طيلة ثلاثمئة عام، ذاك الذي سيقود الأجناس الصفراء والسوداء والحمراء إلى الاندماج بالناجين المتحدّرين من البِيض، في إمبراطورية أكثر اتّساعاً من امبراطورية الخان الأكبر.
لكلّ مدينة مدينةٌ إلى جانبها يُنادى سكّانها بنفس الأسماء
كلّ هذه الخصائص يمتلكها الأطلس: إنّه يكشف عن أشكال المدن التي لم تتّخذ شكلاً أو اسماً بعد. هنالك المدينة التي لها هيئة أمستردام، نصف دائرة تواجه الشمال، بقنواتٍ ذات مركز واحد ــ قناة الأمير، قناة الإمبراطور، قناة النبلاء؛ هناك المدينة التي لها هيئة يورك، تقوم وسط مدن خيالية في العالم المفقود، مسوّرة، تعجّ بالأبراج؛ هناك المدينة التي لها هيئة نيوأمستردام المعروفة أيضاً باسم نيويورك، متخمة بأبراج زجاجية وفولاذية على جزيرة مستطيلة بين نهرين، بشوارع تشبه قنوات عميقة، كلّها مستقيمة، ما عدا شارع برودواي.
بيان الأشكال المصوّرة بلا نهاية: وإلى أن يجد كلّ شكلٍ مدينتَه، سيستمرّ ميلادُ مدن جديدة. وحين تَستنفد الأشكالُ تنوّعها وتُصبح متباعدة تبدأ نهاياتُ المدن. في صفحات الأطلس الأخيرة دفقٌ من شبكات بلا بداية أو نهاية، مدنٌ على شكل لوس أنجلوس، مدن على شكل كيوتو – أوساكا، مدن بلا شكل.
■ ■ ■
المدن والموتى (5)
مثل لودوميا، لكلّ مدينةٍ مدينةٌ أخرى إلى جانبها يُنادى على سكّانها بالأسماء ذاتها؛ إنها لودوميا الموتى، المقبرة. إلّا أن قدرة لودوميا الخاصّة ليست في كونها مزدوجةً فقط، بل مضاعفة ثلاث مرّات. إنها، بكلمة مختصرة، تشتمل على لودوميا ثالثةٍ، مدينة للّذين لم يولدوا بعد.
سمات المدينة المزدوجة معروفة على نطاق واسع. كلّما أصبحت لودوميا الأحياءِ أكثرَ ازدحاماً واتّساعاً، كلّما تزايد امتداد المدافن إلى ما بعد الأسوار. شوارع لودوميا الموتى واسعة فقط بما يكفي للسّماح بمرور عربة حفّار القبور، وتطلّ عليها العديد من المباني التي لا نوافذ لها؛ أمّا مخطَّط الشوارع وترتيب المساكن فيكرّر تلك التي لـ لودوميا الأحياءِ، وفي كليهما، تتراصّ العائلات سويّةً أكثر فأكثر في شققٍ محشورة واحدة فوق الأخرى. في الظهيرات الصافية يقوم السكّانُ الأحياء بزيارة الموتى ويفكّون رموز أسمائهم هم على شواهد قبورهم الحجرية: هذه المدينة الأخرى، شأنها شأن مدينة الأحياء، تشي بتاريخ من الكدح والغضب والأوهام والعواطف؛ هنا فقط يصبح كلّ هذا ضرورياً، مقطوعَ الصلة بالصدفة، مصنَّفاً، مندرجاً في نظام. ولكي تشعر بالثقة بنفسها، يكون على لودوميا الأحياء أن تلتمس في لودوميا الموتى تفسيراً لذاتها، حتى مع خطر العثور هناك، تقريباً، على تفاسير لأكثر من لودوميا واحدةٍ، أو لمدن مختلفة يمكن أن تكون ذات وجود أو لا وجود لها؛ أو أسباب غير كاملة، متناقضة، مخيّبة للآمال.
تخصّص لودوميا، بأمانة، مكانَ إقامةٍ واسعاً بالتساوي لأولئك الذين سيولدون. من الطبيعي ألّا يتناسب المكان مع عددهم، المفترض أنه لا نهائي، ولكنْ ما دامت المنطقة خالية، يحيط بها معمارٌ كلّه كُوى وفُسَحٌ بين أعمدة الأروقة وأخاديد، وما دام من الممكن تخيّل الذين لم يولدوا بعد بأي حجم، بحجم فئران أو دود قزّ أو نملٍ أو بيضِ نمل، فلا شيء يتعارض مع تخيّلهم منتصبين أو جاثمين على كلّ شيء أو رفّ ينتأ من الجدران، على كلّ تاج عمود أو قاعدة تمثال، مصطفّين أو متفرّقين، منكبّين على شؤون حياتهم المقبلة. وهكذا يمكنكَ منذ الآن أن تتأمّل في عِرق رخام كلّ لودوميا المئة عام أو الألف عام، مزدحمةً بحشودٍ بملابسَ لم تُشاهد من قبل أبداً، كلّها بعباءات صوفية بلون الباذنجان، مثلاً، أو بريشِ ديكةٍ رومية على عمائمها، ويمكنك أن تتعرّف على المتحدّرين من صلبك والمتحدّرين من صلب عائلات أخرى، ودودةٍ أو عدائية، ومن مَدينين ودائنين يمضون في شؤونهم، ثاراتهم، يتزوّجون من أجل الحبّ أو المال.
سكّان لودوميا المستقبليّون يشبهون نقطاً، حبّاتِ تراب
أحياءُ لودوميا يتردّدون على بيوت الذين لم يولدوا بعد لاستجوابهم: صدى خطوات تحت القباب الخاوية؛ تُلقى الأسئلة بصمت؛ وأسئلة الأحياء دائماً عن أنفسهم هم، ليس عن أولئك الذين سيأتون. رجلٌ معنيٌّ بترك شهرة لامعة وراءه، آخرُ يريد لعاره أن يُنسى؛ كلّهم يودّون متابعة خيطِ تبِعاتِ أفعالهم؛ ولكنْ كلّما زادوا من حدّة أبصارهم، تضاءلت قدرتهم على تبيّن خطٍّ مستمرّ؛ يبدو أن سكّان لودوميا المستقبليّين يشبهون نقطاً، حبّات تراب، منفصلين عن أي شيء يمتّ بصِلةٍ إلى الماقبل أو المابعد.
لودوميا الذين لم يولدوا بعد لا تُرسل، مثلما تفعل مدينة الموتى، أيَّ إحساس بالأمان إلى سكان لودوميا الأحياء: إنذارٌ فقط. في النهاية تجد أفكارُ الزائرين طريقَيْن في الحياة مفتوحين أمامها، ولا يوجد ما يدلّ على أيّ المرافئ أكثر كرْباً: في كلا الأمرين يجب أن تفكّر بأن عدد الذين لم يولدوا بعد أعظم بما لا يقاس من مجموع كلّ الأحياء وكلّ الموتى، وعندئذ تكون هناك في كلّ مسامة من مسامات الحجر قطعان غير مرئية، متراصّة على جوانب التجويف الشبيه بالقُمع كما في مدرّجات ملعبٍ إغريقي. وبما أن المتحدّرين من لودوميا يتضاعفون في كلّ جيل، فإن كلّ مسامة قمعية تحتوي على مئات الأقماع الأخرى، في كلّ واحدٍ ملايين الأشخاص الذين سيولدون، مشرئبّين بأعناقهم وفاتحين أفواههم للنّجاة من الاختناق. أو تفكّر، خلاف ذلك، أن لودوميا ستختفي أيضاً، من دون معرفة متى، ومعها كلّ سكانها؛ أو بعبارة أخرى، ستتبع الأجيال بعضها بعضاً إلى أن تصل إلى عددٍ معين ومن ثم لن تمضي إلى مسافة أبعد. عندئذ ستكون لودوميا الموتى وتلك التي لمَن لم يولدوا بعد مثل وعائي ساعةٍ رملية لا تنقلب رأساً على عقب؛ كلّ مجاز بين الولادة والموت هو حبّة رملٍ تمر من العنق، وسيكون هناك آخرُ ساكن من سكّان لودوميا يولَد، آخر حبّة تسقط، تلك التي هي الآن على قمّة الكومة، تنتظر.
* ترجمة: محمد الأسعد